النظام العربي يحمل بداخله بذور فنائه

د. رائد المصري

عندما يعتمد النظام السياسي أو أي نظام سياسي على الخوف من المؤسسات ومن بروز قادة حقيقيين وفاعلين في عملية نمو المجتمع ومؤسساته وإصلاحاته واتخاذ القرارات الاستقلالية بعيداً عن التأثير الخارجي، يعني أنه نظام قابل للكسر في أي لحظة مفصلية يتعرَّض لها.

اليوم واشنطن تعمل لإبرام عقود بيع أسلحة للسعودية بعشرات مليارات الدولارات، بعضها جاهز والبعض الآخر قيد التجهيز، وستشمل الصفقة أسلحة ورؤوساً حربية من إنتاج شركة «رايثيون» وتشمل «بنتريتور» وقنابل موجهة بالليزر من طراز «بيفواي».. هي صفقة يجري الإعداد والعمل لها قبيل زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب للمملكة العربية السعودية. فما سرُّ هذا الإنفاق التَرَفي السعودي لعشرات مليارات الدولارات على شراء الأسلحة الأميركية والتركية؟ وهل يأتي ذلك عقب المواقف الأخيرة الجريئة والمقامرة لولي ولي العهد السعودي وزير الدفاع محمد بن سلمان لما يحصل في المنطقة والصراع فيها، وكذلك موقف المملكة من إيران؟

في السابق لطالما شكل سقوط العراق عام 2003 في قبضة الغزو الغربي والاحتلال الأميركي حدثاً مفصلياً لا يمكن فصله عن سلوكيات نظام صدام حسين منذ تسلمه السلطة عام 1979، فدشَّن أيامه الأولى بعدد من الإعدامات ضد خصومه من القادة البعثيين. وأَتْبعها بخطأٍ استراتيجي بشنِّه حرباً عبثية على إيران بعد فترة قصيرة من إنجاز ثورتها في العام 1980، والتي استمرت ثماني سنوات كانت قاتلة واستنزفت مقدرات الدولة العراقية وطبعاً كان بالإمكان تفاديها…

هذه الحرب العراقية على إيران ساهمت بإخراج المارد من قمقمه والعمل على بناء قوته الذاتية. هي حرب كلَّفت العراق الكثير، لكنها في الوقت نفسه كلفت الخليج الداعم لها مع صدام وقتها الكثير من المال والتخندق والاصطفاف وصولاًً إلى توتُّر العلاقات الشيعية السنية في منطقة الخليج.

حربٌ جعلت إيران تتوجَّس حذراً وقلقاً من دور الولايات المتحدة الأميركية الساعي لإسقاط نظامها، كما حصل سابقاً مع رئيس الوزراء الإيراني في خمسينيات القرن العشرين محمد مصدّق.

الحرب العراقية الإيرانية دفعت إيران للتمترس والتموضع عبر الأيديولوجيا الدينية وزاد من خوفها القواعد الأميركية وحاملات الطائرات المحيطة بها في الإقليم وفي الخليج العربي. كلُّ ذلك حدا بالقادة الإيرانيين للعمل عبر قوى أكثر راديكالية واستعداداً في اتباع استراتيجيات تهدف لحماية مداها الحيوي، حتى لو كان في اختراق العالم العربي استراتيجياً وسياسياً.

بناء الجيش العراقي القوي عهد صدام من دون أن تلازمه مؤسسات سياسية ومجتمعية وقدرة لتحسين الإدارة ضمن استراتيجية ورؤية واضحة متَّفقاً عليها، حوّل النظام السياسي حالة من الضعف الذاتي غير المنظور والمكبوت والمتآكل داخلياً واجتماعياً.

تعامل القيادة العراقية السابقة السيئ مع الشيعة، حيث أُسقطت الجنسية عام 1980 في بدايات الحرب ضدَّ إيران بقرار مفاجئ عن مئات الآلاف من العراقيين بحجَّة أن جدهم الخامس من إيران، أدَّى إلى تهجير مئات الآلاف من العراقيين إلى إيران. حصل الأمر ذاته عندما تهجّر آلاف المعارضين العراقيين الذين انتشروا بين أميركا وبريطانيا والبلدان العربية.

كلُّ ذلك مهَّد لدور كبير وخطير لمعارضات الخارج الساعية لإسقاط النظام العراقي مهما كلَّف الأمر وهو أمر غير مبرّر بالطبع …

فهناك مشكلة مركبة ومعقَّدة أُوْجِدت للعراق: تصارع مع الشيعة ودفعهم بالقوة نحو إيران، وتصارع مع الأكراد ودفعهم للعيش في مناطق جبلية محميّة دولياً وخارجة عن السيادة العراقية، وتصارع مع المعارضة ودفع معظمها بقوة نحو الغرب.

هذه بطبيعة الحال الظروف النموذجية والمثالية لنهاية الدولة العراقية وسقوطها وتقسيمها. فغالباً ما كان التلاعب بملفات الجنسية ينهي وجود ومفاعيل الدول، كذلك الدخول في حروب عبثية ومن دون تفكير هو الآخر يُسقط أنظمة، كما أنَّ العنصرية تُجاه مكوِّنات أساسية من الشعب والمجتمع، تُنهي كيانات وتؤسِّس لكيانات بديلة. فهل يفعل ولي ولي العهد السعودي محمد بن سلمان كلَّ هذا اليوم؟..

معظم القادة العرب قلَّما يقرأون التاريخ، لهذا يصبحون ضحايا مخططات الغرب و«إسرائيل» واستعمارها، ويصبحون موضوعاً للتاريخ بدَلاً من أن يكونوا من صنّاعه.

الحرب العراقية الإيرانية أفْقدتِ العراق كلَّ احتياطاته المالية، وخرَجَ مَديناً منها بعشرات المليارات، وغزا الكويت وتحوَّل غزوه كارثة على الكويت وعلى العراق.

الهدف الأميركي اليوم ينحو لوضع اليد من خلال التحالفات على أهم وأغنى منطقة في العالم. فقد اعتقدت أميركا أنها قادرة على السيطرة على العراق وتحويله نظاماً ديموقراطياً مفتَّتاً وتابعاً، وأنها قادرة على تمويل الحرب ضد العراق من خلال النفط العراقي. كلُّ هذه الأبعاد سَقطَت في حرب الولايات المتحدة في العراق، كما أنها لم تجد أسلحة الدمار الشامل التي أعلنت أنها تشنُّ هذه الحرب بسببها.

هنا لا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ إيران كانت تراقب وتراكم الخبرات جرَّاء ما يحصل في العراق وغيره من غزو وتفتيت، وما يحصل في سوريا من حرب استعمارية تدميرية تهدف لعزلها وتطويقها، فتعلَّمت الدروس والعِبَر، وانطلقت من قاعدة أن عدم امتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل وتجريده منها قبل الغزو عام 2003 ساهم في احتلاله، ومن هنا كان التزام إيران بتطوير برنامجها النووي، بالإضافة إلى التجربة الكورية الشمالية التي تفيد بأنَّ امتلاك أسلحة نووية يمنع أي غزوٍ لبلادها.

هو السيناريو العراقي ذاته يتكرَّر اليوم باختلاف العناوين، في ليبيا وسورية واليمن والسودان. وما يفيدنا في هذا هو أنَّنا في إقليم عربي لا يبني مؤسسات فاعلة، ولا ينتج قادة تحدُّ من قراراتهم المتسرٍّعة بعضُ المساءلة والمؤسسات الفاعلة. وفي النهاية تفتح هذه الدكتاتوريات الطريق إلى الاستعمار وزحف القوى الأجنبية لاكتساح الدول واحتلالها.

في الاستعراض لِما سبق نجد الأمر يتكرَّر اليوم في التحالف الجديد الذي يبنيه الأميركي، فبعد تصريحات ترامب الأخيرة، التي قال فيها إنَّ بلاده تتكبَّد خسائر كبيرة في دفاعها عن المملكة العربية السعودية، ها هي الادارة الأميركية تُبرم عقوداً لبيع صفقات الأسلحة للرياض، تقدَّر قيمتها بعشرات المليارات من الدولارات، بالتزامن مع صفقة أسلحة سعودية تركية ضخمة يصفها وزير الدفاع التركي فكري أيشيك بأنها أكبر صفقة تصدير للصناعة العسكرية التركية في تاريخها.. فتكون العاصمة السعودية أول محطة يزورها الرئيس الأميركي في جولته الخارجية خلال الشهر الحالي.

تبدو الخزائن السعودية مفتوحة للغرب، وإذا فرغت من المليارات فإن بيع شركة أرامكو وشركات حكومية عملاقة أخرى، كذلك مناجم الذهب والفضة هي التي ستوفّر كل الطلبات الأميركية كاملة وقيد التنفيذ، وما على الرئيس ترامب إلاَّ الطلب…

إنَّها حالة الاستنزاف المالي والسياسي والعمل على الاستقطابات الحادة في المنطقة لبعض دول الخليج النفطية، في بروباغاندا إعلامية ممنهجة تصوِّب نحو العدو الوهمي المزعوم، ونعني به إيران، تماماً كما حصل منذ العام 2005 بالتحشيد الغربي ضدَّ إيران بحجَّة النووي وتهديد أمن دول الجوار، وبيع صفقات السلاح بمئات مليارات الدولارات، ولما انتشلت أميركا من أزمتها وقضت على التضخُّم والبطالة النسبية، فتحت باب الحوار مع إيران وأنجزت الاتفاق النووي معها…

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية

اترك تعليقاً

Back to top button