«النكبة»… وذكرى مختلفة بمفهوم مختلف
صابرين دياب
فلسطين المحتلة
مرة أخرى، وعام آخر تحت الاستعمار. وهذه مرة مختلفة بمستويين على الأقلّ: مستوى الانكشاف ومستوى المقاومة والتجذير.. بل تموز 2006، كنا نستذكر يوم اغتصاب وطننا بلعن حكام الخزي والعار في محميّات أشباه الرجال الخليجية، وحكام عرب آخرين ساهموا بالتواطؤ مع هؤلاء في محاولات دفن القضية الفلسطينية والتخلّص منها، بعد أن باعها السعودي والأردني للحركة الصهيونية، على فترات زمنية مختلفة قبل إعلان اغتصاب فلسطين رسميا عام 1948 وبعده. أما بعد حرب 2006 فصار استذكار الغدر بفلسطين بأمل أكبر وأقرب الى دماء الشهداء السابقين واللاحقين، لا يتلوّث بذكر الأذلاء والحكام التابعين الأتباع، ذلك أنّ سيد المرحلة، قلب الموازين وعرّى العدو ومطاياه، فاتسع الأمل ولم يعُد إلا قابلاً للتجدّد والاتساع، من دون نأمة إحباط مهما صغرت او تفهت رغم نار الألم والجراح!
لا غضاضة هنا في الإشارة الى حديث مسجل دار مع نائب رئيس الحركة الإسلامية في الداخل المحتلّ عام 2010 لجريدة «العربي الناصري» القومية المصرية، أول صحيفة عربية انتصرت للمسجد الأقصى، وقد تولّى رئاسة تحريرها آنذاك عبد الله السناوي، الذي احتضن قادة الحركة الإسلامية في صفحة «العربي» الأولى، وقد تحدّثوا كثيراً لها منذ 2004 حتى نهاية 2010 عن مأساة المسجد الأقصى، رغم إمكانياتها المتواضعة، بسبب معارك مع نظام مبارك آنذاك، ووضعية الحزب العربي الناصري الاشتراكي، بل إنني أرى ضرورة لهذه الإشارة، لتوضيح نقاط لاحقة، فقد قال رداً على سؤالنا حول النظام الرسمي العربي وتعاطيه مع استهداف المحتلّ وتدنيسه للمسجد الأقصى، «إنّ الأمة العربية والإسلامية لم تخُض حرباً بعد وفاة الرسول الأكرم وصلاح الدين، إلا حرب 2006»! كما قال رئيس الحركة الإسلامية الشيخ رائد صلاح، في حديث آخر، مسجل ومؤرشف بالصوت لصحيفة «العربي الناصري»، في مؤسسة الأقصى في أمّ الفحم عام 2009، في اثناء ردّه على سؤال لنا حول المأمول من النظام الرسمي العربي، قال: «ليت هناك نظامان آخران كالنظام السوري في حاضرنا العربي والإسلامي». ومثل هذه التصريحات وأقوى منها، صرّح بها ساسة حركة المقاومة الإسلامية حماس في كلّ مكان. هذه الإشارات العابرة لممثلي جمهور محدّد من بين جماهير أبناء شعبنا الواسعة، تشير الى أنّ الوجدان العام لجميع ألوان الطيف الفلسطيني اجتمع على حقيقة واحدة، مدركاً انّ َن باع فلسطين ومَن تسبّب بضياعها وتآمر عليها، لا يمكن ان يكون مؤتمناً على قضيتنا، ولا يمكن أن يكون بديلاً لنصير حقيقي وجدي، لأرضنا ولجرحنا ولمشروع تحرّرنا، حتى لو انتقل هؤلاء الآن الى الحضن الرجعي المتآمر على القضية. فذلك لن يؤثر على الوجدان العام، فهم جزء من غالبية لم تفقد بوصلتها، اختارت الانتصار للوطن فقط، وحين نستخدم مصطلح «النكبة» لا بدّ لنا أيضاً أن نتذكّر، من اختاروا امتدادهم الخارجي على انتمائهم الوطني، من دون ان يشعرونا بالإحباط طبعاً، ليس لأنهم قطاع محدود بين جماهير شعبنا العريضة، إنما لأنّ ثقتنا بالجيل الثائر الذي ورث الانتماء وأصوله عن دماء شهدائنا الأبرار لن يفقد البوصلة، وهم الأهمّ، كما انّ ثقتنا بأنصار فلسطين لا تهزها نكباتنا الداخلية على الصعد كافة، ولا تهزّها مخططات العدو في تفتيتنا واقتتالنا واستنزافنا في معارك داخلية مذهبية واثنية وطائفية مريضة وحقيرة لا تليق بوعي شعبنا الجمعي والفردي وإدراكه! في لحظة الانكشاف يتقاطر التوابع إلى الأرض المحتلة عُراة تماماً، بلا خجل، لأنّ الذليل والتابع لا يردعه غير الخوف، في لحظة الانكشاف، تمّ تنبيه الغرائز الوضيعة كافة، وخاصة الطائفية، لتحلّ محلّ الوطن والقومية. والطائفية ليست سوى هوية وضيعة لا علاقة لها بالكرامة والشهامة والانتماء الوطني، بل هي تابعة بالضرورة وحتماً.
بعد قرن على وعد بلفور، وسبعة عقود على استعمار فلسطين، يبان المرج بعد ذوبان الثلج ويصبح أكثر وضوحاً عن وعود بلفور، من الصهيونية العربية للصهيونية اليهودية، ينكشف ما حصل إلى جانب الوعد المشؤوم مما ظلّ تحت ستار! نفد صبر الصهيوني والأميركي، فصار لا بدّ من ذبح ضحية العيد، ممثلة في حكام تمّ تفريخهم لهذه اللحظة، لحظة انفجار ما يسمّونه «الربيع العربي»، الذي هيأ للصهيونية فرصتها التاريخية للإجهاز على الأمة، وليس على قطر واحد هو فلسطين.. مختلفة هذه الذكرى بعزيمة المقاومة، التي أكدت الشرخ بين الشعبي والرسمي، وبين السياسي والمقاوم على الأرض وتحتها، وكشفت الغطاء عن حالة من الهوان والاستجداء و»الاستحذاء» الرسمي العربي،، من دون المقاومة كان يبدو كلّ شيء عادياً ساكناً وبلا أيّ تناقض، وبالمقاومة صار لا بدّ من التخندق: إما للوطن أو ضدّ الوطن، ولذا كانت الهجمة على مختلف المواقع القومية، وخاصة الجمهوريات، وكانت في المقابل المقاومة التي بدأت بهزيمة العدو أعوام 2000 و2006 و2014. وكانت مقاومة سورية واليمن والعراق. لم يعد الأمر أنّ الإمبريالية تأمر فتُطاع، بل صارت تُضرب وتحسب ألف حساب للإمساك بالأرض، فلجأت للعدوان من السماء، ولجأت لزجّ خراف الوهابية للمذبح، ولم تعد للكيان الصهيوني فرصة حروب النزهة، كما كان يزعم قبل صعود المقاومة، ولم يعد قادراً على تحديد وقت العدوان ولا جغرافيته، وبدأ العدو يلغي الساعة الصفر لتحلّ بعدها ساعة أخرى تحلّ أيضاً. تغيّرت الساعات الصفر، وتغيّرت لهجة الأعداء من أنقرة إلى باريس فتل أبيب، وسقطت تخمينات سقوط دمشق وسقط معها مَن خان مرتكزاً على حتمية السقوط.
بقي العدو هو العدو، ولكن بقيت المقاومة. ونحن على موعد مع جولات أخرى، هذه هي الحتمية والصدّ والردّ، الذي لم يعتده العدو، وسيعتاد عليه إلى أن يكون النصر ويتحقق.
كاتبة وناشطة فلسطينية