الميدان السوري يُتوِّج روسيا ركناً في نادي المرجعيّات
د. وفيق إبراهيم
نجمُ قمّة العشرين التي التأمت مؤخّراً في ألمانيا، كان بلا منازع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي جذب الأضواء إليه ومعها الاهتمامات الأميركية التي اعترفت أخيراً بحاجتها إلى موسكو للتنسيق في الأزمات الدوليّة والإقليميّة، وذلك بعد تجاهل دام 27 سنة متواصلة.
وكما أنّ سبب التجاهل الأميركي هو انهيار الاتحاد السوفياتي في 1989، فإنّ الانتصار الروسي في الميدان السوري في 1971 هو الباعث على الإقرار الأميركي بضرورة الدور الروسي. إنّه مفهوم الحاجة المتبادلة في العلاقات الدولية، وعندما تزداد هذه الحاجات على مستويات إقليمية ودولية، تصبح القوى الوازنة فيها مرجعيّات لا يمكن تجاوزها. هذا حال روسيا التي يتدحرج دورها في البلقان وأوروبا الشرقية ومنظمة شانغهاي ذات الدور العالمي المتصاعد. لكنّ «الشرق الأوسط» حيث قلب العالم الإسلامي ومركز ثقله، هو ما يرهب السياسة الأميركية، هو الذي دخلت إليه موسكو من بوّابة دمشق.
قمّة العشرين الحالية جاءت إذاً ترجمةً لجهود روسية بدأت قبل أقلّ من عقد، تمكّن فيها بوتين من نقل روسيا من دولة متداعية اقتصادياً، غاب نفوذها السياسي في حدائقها الخلفية وربما داخل أسوارها، إلى دائرة التأثير العالمي انطلاقاً من دورها السوريّ، وذلك بعد جهود مُضنية بدأت في جورجيا والبلطيق وأوكرانيا وأوروبا الشرقية، وصولاً إلى «الشرق الأوسط» ومفتاح سرّه دمشق. لذلك لا بدّ من التنويه بالصمود الروسي الذي فعل أقصى الممكن. لعقد تحالفات فعلية مع أوروبا والولايات المتحدة الأميركية منذ 1959 وحتى 2005، وجوبهت مساعي موسكو بمعاملة غربية سيّئة تقوم على الاستعداد التاريخي والدائم لبلد مساحته سدس مساحة العالم، وذلك بمحاولة الاستفادة من انهيار الاتحاد السوفياتي وظهور روسيا بلداً ضعيفاً ممزّقاً. لذلك حاولت السياسة الأميركية اغتنام الفرصة لتجريد روسيا من كلّ المقوّمات التي تجعل منه قوة قابلة لتصبح دولة عظمى عند تحقّق الظروف المؤاتية.
وهذه الظروف هي وحدتها الداخلية والجيوبوليتيك الخاص بها في حدائقها الخلفية ودورها في «الشرق الأوسط» والإمساك ببلدان تنافس روسيا في إنتاج الغاز، أيّ المورد الأساسي الذي تحتلّ روسيا رأس منتجيه العالميين وتليها إيران فقطر.
بالنسبة لشرق أوروبا، تساقطت دوله في السلّة الأميركية تباعاً بعد أعوام عدّة فقط على انهيار الاتحاد السوفياتي، ولم يبقَ لحلف وارسو إلا الذكريات التي أتاحت لواشنطن بناء درع صاروخيّة في معظم شرق أوروبا بذرائع سطحية أضحكت المنتديات السياسية في مختلف أصقاع الأرض. لقد زعمت السياسة الأميركية أنّ هذه الدرع هي مظلّة دفاعية في وجه التهديدات الباليستيّة الإيرانية، وتقاطعت هذه الادّعاءات مع ثورات ملوّنة دكّت كلّ الدول الصديقة لروسيا، وأضافت مناورات موسمية دائمة للحلف الأطلسي في دول قريبة من روسيا تحاكي هجوماً روسياً محتملاً على دول البلطيق.
لقد وجدت موسكو نفسها في وضع مقلق… سياسيّوها يقترحون انضمام روسيا إلى الحلف الأطلسي لإنهاء أُسس النزاع التاريخي مع الغرب، والسياسة الأميركية تجابهه بتصعيد حركة تطويق روسيا وتنظيم ائتلافات معادية لها على قاعدة أنّ روسيا هي الحصان التاريخي الأسود الذي لم يتصالح مع أوروبا الغربية ولو مرّة واحدة.
فنابليون حاول احتلالها، وكذلك هتلر والإمبراطوريات الألمانية التي سبقته… كلّهم خسروا عند أبوابها. لذلك فإنّ ما يقلق الغرب هو حجم روسيا الذي يزيد عن مساحة أميركا وأوروبا مجتمعتين.
هنا وجدت موسكو نفسها مضطرة لضرب تحرّشات جورجيا وإيقاف أوكرانيا والتدخّل في البلطيق، بتنفيذ ثغرة «سوالكي» بين بولندا ولتوانيا بعرض 60 كيلومتراً وطول لا يزيد عن المئة، واستمرار استحواذ الروس على هذه الثغرة يضع دول البلطيق الثلاث استونيا ولاتفيا وليتوانيا تحت التهديد الروسي.
هناك إذن تجاذبات أميركية روسية على قاعدة الكرّ والفرّ، مستمرّة في أوروبا الشرقية والبلقان، لم تكن حاسمة لإخراج موسكو من عزلتها… وعجزها عن تحريك الدور الصيني المخترق للعالم وراء سلعة رخيصة وابتسامة لا تفارق محيّاه.
أمّا التسديدة الروسية المحترفة التي أصابت الإمبراطورية الأميركية بالدوار، فهي سورية. هنا كان المشروع الأميركي يحكم بإسقاط «النظام» والإمساك بالدولة، ليعاود الإمساك بـ«الشرق الأوسط» كاملاً والانتهاء من قضية فلسطين في البلد الوحيد الذي بوسعه إنهاءها، وذلك تمهيداً لبعثرة كامل الكيانات إلى كانتونات صغيرة.
واستطاع النظام مع حلفائه، حزب الله وإيران، الصمود، ما استلزم تحوّل المشروع الأميركي إلى إسقاط للدولة السوريّة مرة واحدة من خلال أوسع عملية دعم للإرهاب في التاريخ، دعمتها السعودية وتركيا و«إسرائيل» وقطر والإمارات وأوروبا بقيادة الولايات المتحدة. عند هذا الحدّ جاء التدخّل الروسي العامل الرئيس في دعم الدولة السورية، ومنع إسقاطها متحالفاً مع إيران والدولة السورية وحزب الله وتنظيمات إقليمية في إطار المقاومة.
ما فعله هذا التحالف يُشبه الإعجاز، فقد نجح بصدّ كلّ الاعتداءات منتقلاً إلى هجمات حرّرت معظم المدن السوريّة من الشمال إلى الجنوب ومن الغرب إلى حدود الكانتون الكردي الأميركي في الشرق، ومتمكّناً من الوصول إلى حدوده مع الأردن والعراق محرّراً ثلاثين ألف كيلو متر مربّع… وهذا ما عاون العراقيين في تحرير الموصل، ثاني مدنهم بعد بغداد العاصمة.
هذا الانتصار السوري الروسي الإيراني فضح مدى الاستثمار الأميركي الخليجي التركي بإرهاب «داعش» و«النصرة»، كاشفاً هزالة العلاقة بين هذا الاستثمار وبين رفض المزاج الشعبي السوري له. فالسوريّون لا يندمجون مع الإرهاب ويرفضون التطرّف، الأمر الذي أدّى إلى ارتفاع مستوى الدور الروسي في سورية أمام تراجع الدور الأميركي الخليجي التركي فيها، بدليل أنّ الأوراق السوريّة لدى الأميركيين أصبحت ضئيلة وتافهة، بدليل أنّهم يعاودون إحياء شخصيات خرجت من المعارضة واعترفت بالخسارة، أمثال حجاب والجربا وآخرين. ويحاولون التجديد لاقتراحات ميتة مثل مجالس حكم تتلاءم مذهبياً وطائفياً مع الانتماءات الدينية للسكّان، وكأنّ الحرب وقعت من أجل التباينات الدينية.
ما يمكن أخيراً استنتاجه، أنّ موسكو أصبحت المحور الأجنبي الرئيسي في الأزمة السوريّة إلى جانب الجيش السوري وحزب الله، والدليل أنّ الأطراف التركية والخليجية والأميركية والداخلية كلّها موافقة على أن تكون الشرطة الروسية هي القوة الأمنيّة التي تراقب وقف إطلاق النار وتعمل على حمايته. ولأنّ بوّابة المشرق العربي هي سورية بإقرار عالمي، لأنّ سقوط الدولة فيها مدخل إلى إسقاط المنطقة بأسرها، كما أنّ صمودها الذي تحقّق يؤدّي تلقائياً إلى متانة الأوضاع، لذلك تمتلك موسكو حالياً دور المضمّد للجراح والمخمد للنزاعات، من جرّاء دورها في سورية قلب الإقليم. وهذا كان واضحاً في مجريات قمّة العشرين التي تناولت أزمات العالم من تجارة واقتصاد وتنمية ونزوح ومناخ وإرهاب بشكلٍ عابر، فيما نالت سورية أقلّ بقليل من ثلاث ساعات في لقاء جمع بوتين إلى ترامب، رئيسَي أعظم دولتين حالياً. وهكذا يتدحرج الدور الروسي بسرعة مستفيداً من صلابة الدولة السوريّة، ليعيد الاحترام إلى العلاقات الدولية من خلال القانون الدولي وفرض إلغاء العدوانية الأميركية.
وإذا كان الاتحاد السوفياتي انهار، فإنّ وريثته روسيا عادت إلى أداء الأدوار التي من شأنها إضفاء الموازنات العادلة على العلاقات بين الدول.
فهل نحن أمام انتهاء مرحلة 1990 2017 التي قتلت فيها السياسة الأميركية ملايين العرب والبشر؟