بركانٌ لن يهدأ
روزانا رمّال
المفارقات التي تحيط بملف بحجم المنطقة، وهو أصل العقد الممتدة منذ عقود على مساحة المنطقة العربية الشرق أوسطية كفلسطين، باتت اليوم أكثر من كونها روتيناً أرخى بثقله عند بوابات المسجد الاقصى او مفتاح القدس او ثورة غاضب من البؤس، منتفضاً على الاحتلال منذ سبعين عاماً، فكل شيء يتغير بسرعة جنونية يكاد لا يتوقعها العدو «الإسرائيلي» الذي فعلاً بدأ يعترف بعجزه عن ضبط الساحة الفلسطينية وإلا لما كانت تتالت التحركات الشعبية التي لا تهدأ حتى تشتعل من جديد.
الأحداث التي أحاطت بالمسجد الأقصى بدت أحد أبرز أوجه الحركة الاحتجاجية الفلسطينية الثائرة، لكنها في الوقت نفسه تحمل مؤشرات سياسية مباشرة تتعلق بالسلطات «الاسرائيلية» وموقعها وموقفها معاً من مجريات الأحداث في المنطقة، وربما تبدو مرتبطة لاول مرة بخيبات «اسرائيلية» متوالية ترافقها خيبات المحور الأميركي، وبالتحديد هنا عن الربيع العربي وفشله الذريع الذي أشاع مشاعر جديدة في صفوف الفلسطنيين.
الاهتزاز الكبير الذي تعيشه قوى حشدت من أجل التغيير في المنطقة بمنظار يناسب مخططات كالتقسيم، ورسم خريطة جديدة سياسية للمنطقة من دون جدوى حتى هذه اللحظة أثّر بشكل واضح على المشهد الفلسطيني. فالحراك الشعبي العارم الذي يتوالى في كل مرة والفترة الزمنية بين كل انتفاضة واخرى هو مؤشر تصاعدي بحساب الخبراء الأمنيين والباحثين في الظواهر السياسية ومتغيراتها. وإذا كان تتالي عدد الانتفاضات أو «الهبات» الفلسطينية بهذا الزخم، مرة كانتفاضة السكاكين البيضاء وأخرى على شكل تضامن مع الأسرى المضربين عن الطعام مع تفاعل شعبي دولي أثمر تحقيق طلبات الأسرى، ثم انتفاضة الاقصى والانتصار الأخير برفع العلم الفلسطيني ومنع الاحتلال من تطبيق شروطه بوضع كاميرات مراقبة أو حتى بوابات الكترونية، فإن كل هذا يؤكد ان ما يجري خرج عن الروتين الفلسطيني وأن روحية التعاطي مع القضية مختلفة.
هي روحية شباب ونَفَس جديد، هو الجيل الذي ترعرع على وعود بتغيير الأنظمة العربية ومشاهد الاحتلال الذي يحيي هذا الخراب الذي حلّ بجوار الارض المحتلة من جهة مصر وسورية والمصفّق لحلفائه الذين دمروا المنطقة وجيوشها وحرقوا أخضر البلاد ويابسها عبر اجتياحات ومطالبات بالتغيير بحجة الديمقراطية من ثم الارتباط الوثيق ولعب دور الشراكة بين الارهاب ومشاريع التغيير عبر التسهيلات الممنوحة لمجموعات إرهابية استقدمت من أجل المهمة ومنها ما تمّ ابتكاره من داعش وجبهة النصرة. هذا الشارع الفلسطيني الفتي بدأ يشاهد كل هذه الخيبات للمشروع الأميركي ويستعيد صورة حرب تموز 2006 ثم تحرير جنوب لبنان عام 2000 لتتكوّن صورة لم تكن أكثر قرباً من إعلان انتفاضة كبرى ومنتجة من هذه المرة.
الأزمة السورية أثرت بشكل مباشر على تزخيم الشارع الفلسطيني وأحد أهم مفاصلها هو واقع الجولان أو الجنوب السوري، حيث بعثت مسألة فتح الحدود السورية الجنوبية من قبل الدولة السورية للقتال أمام المقاومة اللبنانية او الفلسطينية او مَن يرغب بالتنسيق معها على ذلك الهدف، فبعثت مشهداً جديداً من التحدي يُضاف إليه مسألة أساسية وهي انضمام حزب الله. وهو القوة المقاتلة على الحدود الجنوبية السورية الى تلك المنطقة. وهو الأمر الذي يؤثر مباشرة على فكرة تطويق الكيان «الاسرائيلي» من قوى المقاومة وحركاتها. وبات الشارع المتحرك في القدس خط الوسط ما بين جنوب لبنان وجنوب سورية، وعلى هذا الأساس بدأت الصرخة تعلو في المؤسسات الأمنية والاستخبارية «الإسرائيلية» انضمّت اليها مجموعة من الخبراء والكتاب «الإسرائيليين» الذين يتحدثون عن عجز جدّي لحكومة بن يمين نتنياهو التي تقف عاجزة متفرّجة أمام حزب الله الذي يتقدّم على أكثر من جبهة بعد معارك جرود عرسال اللبنانية ومعارك سورية والعراق وربما أبعد منها، والسلطات «الإسرائيلية» عاجزة عن ضبط تظاهرات القدس.
وجهة نظر مغايرة قد تكون منطلقاً آخر من الإشكالية «الاسرائيلية»، لكنها تصبّ أيضاً في منطق «العجز» والالتفاف حوله نفسه، وهو اعتبار ان التصعيد في القدس بما بدا استغلالاً واضحاً من «اسرائيل» لما جرى في حادثة 14 تموز لا يستأهل تطويره الى تصعيد قد يؤدي إلى تدهور بليغ على الساحة الأمنية «الاسرائيلية». وهو الهروب من مشهد التصاعد الذي يحرزه حلف حزب الله سورية إيران وتضخيم المشهد الفلسطيني كي تحرف الأنظار العربية عن إنجازات هذا المحور الأخيرة، في ما يبدو لـ«إسرائيل» تحت السيطرة، لكنه بالواقع قد لا يكون كذلك بل إنه شديد الخطورة هذه المرة نظراً لما يبدو انه صار بالنسبة للشارع الفلسطيني مياومة على النزول للشارع والتعبير عن الغضب لحظة التجاوز «الاسرائيلي».
هو بركان لن ينطفئ. والأكيد ان تتالي الانتفاضات وعدم تأطيرها ضمن مجموعات سياسية يشكل نقلة نوعية بالرأي العام الفلسطيني الذي اعتاد على حركات سياسية منظمة تقود الحملات جميعها لتظهر الفئة الشبابية التي لا تنتمي للاحزاب وتبادر للانتفاضة «ارتجالاً». هذا التسارع بتوقيت التحركات الفلسطينية هو مؤشر واضح على مخاض لولادة انتفاضة القدس الكبرى التي بات التقدم نحوها بأذهان الثائرين من اجل تحريرها هدفاً اقرب مما كانوا يعتقدونه بعدما لعبت الظروف السياسية المحيطة دوراً مباشراً في إنضاج ذلك.