دمشق تسطع ونورها لبنانيّ رغم الجعجعة
هاني الحلبي
لافتة كانت مبادرة من ناشطة سياسية لبنانية ذات مكانة. محدّثة لبقة فاهمة. نموذج أناقة رفيع. إذ يسمعها المرء لا يتورّع عن اقتباس قول زينون الرواقي، أول مؤسس فلسفي للعقل واتجاهه، «لقد ذابت أذناي في لسانك».
لكن، عندما يعرف المرءُ السويّ مضمون المبادرة والتفاصيل، تصدمه حدّة المكابرة على السير عكس ناموس التاريخ الحيّ والجغرافيا الحاكمة!
ونقدُ مبادرة السيدة حياة أرسلان، بدعوة العائلات التي أسست الكيان اللبناني، لـ«الاحتفال» في أول أيلول المقبل بما اقترفت أيديها، وما ألحقت بهذا الكيان وأهله من عوارض سرطان آكل ونَهِم، وفسادٍ توارثته هذه العائلات «السياسية» من احتلال تركي كانت تنعم برعايته ضد الشعب لجمع المكوس فيرضى سيدها الوالي، واستطراداً ليستجرّ سيدها وسيّد الوالي، «السلطان الأعظم» في بابه العالي!
وبديهي أن مبادرة السيدة أرسلان، كما قالت بالحرف حسب ما تم تداوله إعلامياً، أنها عائلية، وليست وطنية وليست شعبية لبنانية، لتصبح الدعوة للاحتفاء بأول أيلول عيداً وطنياً. هي دعوة عائلات، وليس دعوة اللبنانيين كافة ليحتفلوا بخنقهم بمعابر قسرية عن أمهم التاريخية دمشق. هي دعوة عائلية لتجديد عقد التسلط على اللبنانيين. يبدو أن هذا التسلط لم يستفد من تجارب حروبه علينا، بتعنّته طيلة خمسة عقود، إثنين منها في رحم الانتداب، وثلاثة بعد طَلْق الكيان الخديج في ما سُمّي بـ«الاستقلال»، الذي لم تبذل تلك العائلات الكريمة أية نقطة دم لأجله ولا لأجل لبنان ورفع علمه في بشامون، فمن حمى العلم لا يتفقون لا في عقيدتهم القومية ولا في بعدهم التوحيدي الديني المشرقي مع غلاة الانعزال العائلي الإقطاعي انتداباً عن اللبنانيين وعليهم. هذا «الاستقلال»، لم يكن قطّ دالاً على معناه، بل لم يكن سوى استغلال تلك العائلات المفروضة بقوة تواطئها مع الأجنبي العثماني الانتدابي، وصولاً إلى تزيين أي تدخل أجنبي، او تبريره، أو استدعائه، ضد أي حركة تحديث حقوقي سياسي فلسفي للنظام اللبناني. تلك العائلات الفارضة تسلّطها بالجندرمة حيناً، وبالحرم الطائفي السياسي الإلغائي حيناً آخر، ضد أي نبض فتيّ حيّ، عروبي مشرقي فاعل، التي لا يمتدّ أفقها أبعد من الأسيجة الشائكة للسجن الكياني 10452 كلم.
ولمن غابت عنه حقائق التاريخ، في تأسيس الكيان، أن حالة أوجدتها السخرة والانكشارية العثمانية التي شكّلت النسق السياسي للسنية السياسية حينذاك، حتى اختلط حابل الدين بنابل السلطنة، وأصبح لا بد من نزعة مقابلة في نسق الجدل والتناقض، بقيام نزعة طائفية مسيحية مدعومة، بتحريض هادف من الدول الأوروبية، ترى أن أمان المسيحيين بإقامة كيان طائفي يشكّل بيدر ضمان الأقليات والاستثمار تمهيداً للاستدمار بالتقاتل والتقاصي حتى الإفناء، حتى اعتاد اللبنانيون على انتظار حرب مدمرة او فتنة كل عقدين من السنين!!
لنجاح خطة التفتيت، التي تستعيد أنفاسها قليلاً، بدعم أميركي أوروبي صهيوني انعزالي إقطاعي محلي، كان لا بدّ من تحقيق أمرين:
كسرِ بنية أيّ إرادة وطنية في بلاد الشام، بعدما توّج عليها الهاشمي الملك فيصل لتكريس حالة الهيمنة «الأبوية الدينية» على البنيان الوطني السوري، فسرعان ما استسلم فيصل لتهديد الجنرال غورو، بينما أمّ الصبي، الاتجاه القومي المعبِّر عنه موقف وزير الدفاع السوري الشهيد يوسف العظمة، رفض أن يستسلم رخيصاً، وحاض معركته المقدسة حتى الاستشهاد. وكان في الموت المادي والدماء المسفوحة في وادي الحريري وميسلون يقظة روح أخذت تصنع التاريخ، فقامت خلال عقود سورية دولة تتلمّس روحها حتى قاربتها حالياً، قيادة وحكومة وشعباً. لتدرك باليقين الميداني أن الأمن القومي ليس أمن جمهورية عربية سورية ولا أمن كيان سياسي لبناني، لا تتعدّى مساحته السياسية حجم بلدية في ريف حمص. بينما لبنان السوري أعظم من هذا المدى الصغير، الذي حبسه فيه الانعزال المتلبّنن!
تسريع إبرام سلسلة اتفاقيات سياسية لا حقوقية، إثر نهاية الحرب العالمية الأولى، من سايكس بيكو إلى وعد بلفور، صك الانتداب، مقررات مؤتمر الصلح، سيفر، سان ريمو، خطط أوجدت البنية السياسية التدخّلية المستمرة حتى الآن للسيطرة على أراضي «العثماني المريض» بعد انقراضه. وهذه السلسلة من الخطط فاقدة أي قيمة حقوقية مهما طال الزمن. لأنها قامت على وراثة احتلال بالقوة لا شرعية له، لتصبح انتداباً لم تنتدبه جهة شعبية قومية ليؤهلها لتكون دولة وشعباً، فعصبة الأمم كالأمم المتحدة بعد الحرب الثانية هي عصابة من أمم كواسر فاقت مَن غلبتها من أمم انهزمت في مستوى الجريمة والفتك، فأمسكت هذه العصبة عالماً مشتتاً كقطيع بين ذئاب مفترسة توارثته بالقوة والغلبة. والقوة والغلبة لا تكسب حقاً إلا في غابة حيوانات بشرية، أما في المجتمعات الحديثة فقيمة الحق شرعية الانتخاب الحر من مواطنين متكاملي الحقوق والواجبات. هكذا، فإن توجه الوفود اللبنانية إلى مؤتمر الصلح العام 1018، وأي مؤتمر بعده، كان نموذجاً صارخاً عن فقدان الوجدان القومي، لتطلب وفود «المتدينين» و«الوجهاء» هذه من فاقد الصفة الأجنبي أن يتولى البتّ والفصل في قضايانا القومية. صاحب الصفة هو الشعب فقط، باستمرار أجياله، وليس عصبة الأمم ولا جمعية الأمم المتحدة، ولا جثّة جامعة الدول العربية. فكما كرّست عصبة الأمم التقسيم الأول بعزل لبنان عن سورية، فرضت الأمم المتحدة قرار التقسيم بعزل معظم الساحل الفلسطيني عن الداخل وغزة وكرّست حالة احتلال مستديم بالقتل والاستيطان يدمّر سورية الطبيعية كلها.
كل شريف وطني، لا يمكنه أن يرى في أي تقسيم من التقسيمين المؤسسين للكيان اللبناني او للكيان «الإسرائيلي»، وأي تقسيم ممكن غيرهما الكردي مثلاً ، في الوطن الواحد والشعب الواحد، سوى جريمة تاريخية ينبغي أن يعاقَب عليها مرتكبوها ومَن تواطأوا فيها من أهل البلاد معهم، مهما كانت الذرائع التي زيّنوا بها تواطؤهم.
فأيّ فضل لحالة لبنان الكيانية على اللبنانيين سوى الشدّ بهم قهقرى ليبقَوا الكيان المتخلّف الوحيد في المشرق؟ بل وليسمّموا بـ«اللبننة» باقي هذا المشرق المضرّج بأمثال العائلات اللبنانية التي تفخر بما ارتكبت بحكم لبنان بالفساد طيلة تسعة عقود، فلم تُطِق صياغة أيّ قانون عصري يكرسس المساواة الحقيقية في الحقوق والواجبات، غير قوانين التفرنس التي رذلها الفرنسيون أنفسهم!
ويبدو هذا التخلّف الإقطاعي في أبشع صوره وأفجرها، عندما يصبح جعجعة لئيمة، بينما الشمس تسطع والأرض تدور!
فما قيمة محاكم التفتيش الانعزالية أمام النور وحتمية نواميس الحياة وعظمة دمشق؟!
باحث وناشر موقع حرمون haramoon.com
وموقع السوق Alssouk.net