دمشق.. تكسرتْ على أبوابكِ الغزاة
آمنة بدر الدين الحلبي
كلما ضاقت أنفاسُ الليل يعلن قلبي النفير ويردّدُ النبض، أينكِ يا دمشق؟ أمَا انتهى الأعداء بعد من تمشيط سمائك الواسعة، وحياكة المؤامرات، ونقش الألاعيب، واللعب على أوتار جعجعةٍ لا طحين يندلق منها، فيتراءى لي كلامُ النبيّ جبران «اسكت يا قلبي، فالفضاء لا يسمعك. اسكت، فالأثير مثقَلٌ بالنّواح والعويل، اسكت يا قلبي حتى الصباح، فمن يترقّب الصباح صابراً يلاقِ الصباح قوياً، ومن يهوَ النور فالنور يهواه».
نحن نهوى نور الصباح، لأننا أبناء الشمس، أبناء الحياة، ونواجه لأن الحق يُؤخَذُ ولا يُعطى، وما أُخذ بالقوة لا يُستردّ إلا بالقوة. ولدنا أحراراً لا عبيد، قاومنا كل عُتُلٍّ زنيم، ووقفنا بوجه كل عدوٍ أثيم، وناضلنا بكل ما نملك من قوة على المقاومة لصدّ الغربان في عتمة الليل البهيم، وسحق الخفافيش حتى الوضع يستقيم، وإخماد الجعجعة من لسان لئيم.
صبرنا حتى عجز الصبر عن صبرنا، وصبرنا حتى احتار العالم في أمرنا، وانتظرنا وما بقي إلا القليل لِنُخْمِد أصواتَ الحاقدين، الذين أحرقوا الحب في كينونة قلبك يا دمشق، لكنّهم لم يستطيعوا كسر معولنا الذي خبّأناه ليوم الحصاد، ولم يستطيعوا كسر إرادتنا الشامخة كجبل قاسيون.
كلما تقدّمتِ خطوة يا دمشق على طريق النصر ارتفع النعيق، وكلما تمدّدتِ على شبر من أرضنا علا صوت النهيق. لم أكن أعلم أنهم رقيق في سوق النخاسة بدّلوا جلودهم واكتفوا بملء جيوبهم نجاسة ليستمرّوا في الحريق.
لكنّهم لم يعلموا أن دمشق نجمة في سماء الله، حين يطلع الفجر تمتلئ بمواكب الأولياء والصالحين، وتزدحم بأسراب اليمام والشحارير تتطاير متنقّلة بين أطراف بردى الذي شهد على عارهم وعهرهم.
لم يعلموا أن دمشق روح من الله ومدينته وكنانة رسوله، استيقظت ذات حنين على حضور الأنبياء، وفتحت أحضانها للسالكين وأهل الطريق، وأطفأت ظمأ العابرين من ماء بردى الذي لوّثته أياديهم بدماء الأبرياء فتبّت أيديهم كافة.
لم يعلموا أن دمشق التي بلغت من العمر عتياً ما زالت حسناء تتربّع على عرش الجمال بأسماء وألقاب عديدة، ولها حضور للحضور بوقار لا مثيل له في التاريخ، أطلقوا عليها الفيحاء لسعة أراضيها الجميلة التي تعجّ بالياسمين، ولقّبت بالغناء لخضرتها والتفاف غوطتها بالأشجار، وسُمّيت العذراء نسبة إلى سيّدة نساء العالمين مريم العذراء وذكرها الكاتب عيسى اسكندر المعلوف، أما المؤرخون والجغرافيون المسلمون فاستعملوا لقب قصبة الشام، وفسطاط الشام.
لم يعرفوا أن دمشق الياسمين موئل الزعتر وعبق الريحان، وشفاه الدحنون في كل مكان، وزواريب الغار وعنفوان السنديان، وشجر الحور على عيون الأرصفة يسقيها الرعيان، وحول صدر فستقية تلتفّ شقائق النعمان.
لم يدركوا أن دمشق الياسمين ما ضنَّت يوماً على أحد، ولا تركت يتيماً يذرف دمعاً مع أحد، ولا مولوداً إلا سقته ماء الزهر ليكون مختلفاً عن أي أحد، ولا يرضخ لأحد.
لم يتيقَّنوا بعد أن دمشق عاصمة التاريخ تكسَّر على أبوابها الغزاة، واندحرت تحت قلاعها الجيوش، وانهزمت جحافل المستعمرين كلهم أمام صمود أبنائها، لأنها ترفض أن تموت لتبقى قبلة العشاق والمحبّين، فيطوفون حول تكاياها، ويغتسلون بمائها العذب وينشرون حكاياتهم من الغزل الجليل المضمّخ بزهر الياسمين.
لم يقرأوا دروس التاريخ ليتعرّفوا عن دمشق وعن سكانها السوريين الحضاريين، كما وصفهم الدكتور أحمد داود «هم الذين انتشروا حول حوض المتوسط انتشاراً حضارياً إعمارياً، وأن السوريين هم سكان قرطاجة، كما أنهم سكان طروادة وقبرص وصقلية وجنوب إيطاليا، تشهد على ذلك اللغة السورية السريانية التي هي لغة التخاطب الوحيدة في كل مواقع الحضارة القديمة».
إلى متى ستظلّ بصيرتهم عمياء؟ وعلى قلوبهم أكنة من الصعب أن يفقّهوا أرواحهم بتاريخ عابق بالحضارات الإنسانية المختلفة على مر العصور، وبالمعارك المتنوّعة التي انتصرت فيها، وتحطّم على أسوارها الطامعون كلّهم، وعلى أبوابها الغزاة كلهم، وبقيت شامخة مثل قاسيون.
دمشق حلم الدهشة وخفر العذارى ورائحة الحنين المضرّجة بدماء الشهداء والقدّيسين، ستبقى شامخة إلى أن يرثَ اللهُ الأرضَ ومَنْ عليها، بفلّها وياسمين حاراتها يعرِّش على الحيطان.