التنسيق الإيراني التركي: موضعيّ أم إقليميّ؟
د. وفيق إبراهيم
يبدو طبيعياً أن يسابق الإيرانيّون والأتراك الزمن للتنسيق في ما يتعلّق باحتواء أزمة كردية تتّجه إلى تفجير الجغرافيا السياسيّة لإيران وتركيا والعراق وسورية معاً، ما يعترض هذا التنسيق الذي أسماه «صاحباه» منع «تغيير الجغرافيا السياسية في سورية والعراق» عوامل متشابكة:
أولاً: إنّ تطور النّزعة الانفصالية الكردية اغتنم انفجار الوباء الإرهابي في سورية فتحرّك، كما ارتبط بالاحتلال الأميركي للعراق منذ التسعينيات، إلى حدود استغلال اجتياح بلاد الرافدين في 2003، لينظّم تدابير انفصالية اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً.
ثانياً: يتماهى المشروع الكردي مع السياسة الأميركية في المنطقة بشكل كامل، بما لا يمكن إحداث فصل بينهما، وهذا يعني استعداد واشنطن لتكييف المشروع الكردي حسب حاجاتها، من دون الأخذ بعين الاعتبار الأضرار المتوقعة على تركيا وإيران والبلدان الأخرى.
ثالثاً: لن تسكت الدول المتضرّرة، ومعظمها من أصحاب الوزن في الإقليم تركيا وإيران والمشرق العربي سورية والعراق على الاتجاهات الكردية.
رابعاً: صحيح أنّ الموقف العربي ليس وازناً حالياً، لكنّه يستطيع تسجيل اعتراض قابل للاستحضار في أيّ وقت، وإذا كانت دول الخليج تستعمل الأكراد في وجه دولتي سورية والعراق، فهذا موقف آنيّ له خصوصيّته الزمنيّة، لكنّه سرعان ما ينقلب على الكرد عند تحسّن العلاقات العربية العربية.
خامساً: استعادت روسيا قسماً وازناً من أدوار سلفها السوفياتي، ما يجعلها تتدحرج لاحتلال موقع مرجعي كونيّ. والواضح حتى الآن أنّ موسكو تعارض الانفصال الكامل للأكراد، وتفضّل نظاماً كونفدرالياً ضمن إطار الدولة الوطنية.
فهل ينجح التنسيق الإيراني التركي من دون أخذ النقاط المذكورة بعين الاعتبار؟
يحاول البلدان إطفاء «النار الكردية» عند الجار قبل وصولها إليهما، وهذا ينطبق على حالة إيران التي تتعامل مع أكرادها بحنكة واستيعاب على أساسين التجانس العرقي بين الكرد والفرس، اللذين ينتميان إلى العرق الآري، حسب التصنيفات الألمانية. وهذا واضح في عمق التشابه في اللغة والأعياد بين الشعبين… هناك أيضاً الاستيعاب السياسي، لأنّ للكرد حضورهم في القيادات السياسيّة والاقتصادية لإيران كحال القوميات الأخرى.
وهكذا يتبيّن أنّ هناك بلداً هي تركيا تكتوي بنار الانفصال الكردي داخلها. وهناك بلد آخر لم تصل إليه هذه النار لكنّه يريد إطفاءها، لأنّ لها ما يجعلها تمتدّ في مناطق الأكراد الإيرانية، وهذا يجيز التنسيق بينهما، لكنّه لن يصبح فاعلاً إلا إذا وجد تغطية عربية، وهي غير موجودة حالياً، ودعماً أميركياً رافضاً لكلّ ما يسيء لتحرّك الأكراد، لأنّه يعتبرهم أقرب إليه من العنجهية التركية والدور الإيراني الواسع.
«إسرائيل» بدورها، تعتبر نفسها حليفة الأكراد «البرزانيين» منذ السبعينيات، وترى أنّ انفصال الأكراد من شأنه التسبّب بإضعاف البلدان العربية الرافضة لها سورية والعراق ، وبلدان الإقليم التي تعتبر القضية الفلسطينية قضيّتها إيران .
أمّا الروس المتحالفون مع إيران، والمتفاهمون مع الأتراك، فلا يريدون تهشيم جغرافية الدول الوطنية، لأنّه يصبّ في مصلحة الأميركيين، ويرغبون في الوقت نفسه في إرضاء الكرد بمشروع فدرالي داخل دولهم الوطنيّة، إنّما في إطار تناغمها مع المحيط العربي والإيراني والتركي.
ضمن هذه الأجواء، أعلن رئيسا أركان الجيشين الإيراني محمد باقر والتركي خلوصي اكارد، بداية التنسيق بينهما في أراضٍ عراقيّة من شأن السيطرة عليها فرملة المشروع الكردي التقسيمي، وأراضٍ في شمال سورية بوسعها زعزعة الآمال الكردية بإقليم واسع.
كيف الحلّ إذن؟
تحاول الولايات المتحدة الأميركية إرجاء الاستفتاء على الانفصال في كردستان العراق المزمع إجراؤه في منتصف الشهر المقبل إلى موعد غير محدّد، مقابل الحصول على حصص مالية أعلى من الحكومة المركزية في بغداد، وأدوار سياسية أكثر أساسيّة. وهناك ضغوط أميركية لتحقيق هذه الوساطة بسرعة، لأنّ تحرير مدينة تلّعفر أصبح مسألة وقت قريب، وبعدها تصبح «كردستان العراق» ذات الولاء الأميركي والمرتبطة بعلاقات عميقة مع «إسرائيل» تحت ثلاث نيران حدوديّة كبيرة، تركية وإيرانية وعراقية. لذلك، تبدو الوساطة الأميركية وسيلة ناجعة للمحافظة على ما كسبه الكرد حتى اليوم من نجاحهم في تأمين استقلالية لا ينقصها إلا الانفصال لتصبح دولة.
لجهة سورية، الوضع الكرديّ أشدّ صعوبة، ونتيجة لخسارة الأميركيين ورقة الإرهاب، يشكّل الأكراد بديلاً مناسباً، تمكّنوا بتغطية جويّة وبرّية أميركية من الوصول إلى الرقة، أيّ أبعد من مناطقهم التاريخية، ما يكشف الدور الأميركي في استعمالهم لغايات أميركية وليست كرديّة، ويضعهم في حالات احتراب وقتال مع العرب المظلومين مثلهم من السياسات الأميركية والبريطانية والفرنسية و«الإسرائيلية».
وللتذكير، فإنّ الغرب تعاون مع «الإسرائيليين» على طرد الفلسطينيّين من أراضيهم، بينما استقبل السوريّون الأكراد على أراضٍ سوريّة، هم فيها حالياً عندما طردهم أتاتورك بتنسيق مع الفرنسيين من أراضيهم التاريخية شرق ما أُسمي تركيا في مطلع القرن الفائت.
هناك إذن ملامح حرب إقليمية تركية إيرانيّة في وجه المشروع الكردي المختبئ داخل العباءة الأميركية «الإسرائيلية» ولا تحتاج لاندلاعها إلا لأسباب بسيطة هي موجودة حالياً، وكما تحرص عليها «إسرائيل» والسعودية ولا تريدها واشنطن، بينما تحاول موسكو منعها… لكن لكلّ من هذه الدول أسبابه.
لجهة «إسرائيل» والسعودية، فهما تعتبران الحرب الإقليمية ضرورية لتفتيت سورية والعراق الوازنتين في وجه «إسرائيل» والإرهاب، وبذلك تسقط القضية الفلسطينية نهائيّاً، لأنّ مصر والأردن معترفان بدولة «إسرائيل» إلى جانب السلطة الفلسطينية ومنظمّات فلسطينية أخرى تؤيّد مبادرة عبدالله المعدّلة في إطار تبادل أراضٍ بين صحراء النقب والضفة الغربيّة.
أما واشنطن، فتعتبر الأكراد أفضل أداة ممكن لها استعمالها منذ الحرب العالمية الثانية، لأنّهم موجودون في أربع دول معظمها ليس على درجة عالية من الولاء لواشنطن، وعددهم يزيد على 30 مليون نسمة، أي أنّهم الوسيلة لتحديث النفوذ الأميركي في المنطقة والمؤدّي إلى هيمنتها.
وإذا كان العرب الآخرون لا دور لهم، فإنّ سورية والعراق تؤدّيان دوراً جهادياً في وجه الوباء الإرهابي والتفلّت الكردي و«إسرائيل» والاعتداءات الأميركية، ويبدو أنّ الجهة التي تستطيع إنجاز سياسات معتدلة في موضوع الكرد هي روسيا الموجودة على الأرض، والتي لبعض الأكراد علاقات تاريخية بها، خصوصاً حزب العمل الكردستاني. أمّا حزب الحياة الإيراني الكردي فوجوده إعلامي يترافق موسمياً مع ضجيج عسكريّ لا قيمة له، ولروسيا مكانة عند الفريقين التركي والإيراني، ما يجعلها مقبولة لطرح مسألة الفدرالية الكردية، فتعطّل محاولات أميركية جديدة لاستبدال الإرهاب المهزوم بأكراد كانوا دائماً كالعرب ضحايا لعبة الأمم.
فهل نحن أمام حروب أميركية جديدة بالدماء الكرديّة والعربيّة؟
العرب في سُبات أهل الكهف، والرّهان على تحالف روسيّ إيراني عراقي سوريّ يجذب تركيا إلى تحالفات مع الكرد لفرملة المشاريع الأميركية الجديدة المندفعة للمزيد من تفتيت أصحاب الظلامات.