سماحة الإمام القائد السيد موسى الصدر في ذكرى غيابك «زرْعُك أثمرَ وَطناً»
زاهر الخطيب
سيدي القائد سماحة الإمام موسى الصدر
المقاومة خَيارُكُ في معركةِ التحَّرير..
اللاَّطائفيةُ السياسية والوَحدةُ الوطنيةُ مَسَارُك في معركةِ التغيير..
أمَّا في العقيدةِ والإيمان فالمنُطلَقُ عندَك والهدف:
إنّما هو الإنسان مُلتقى ومبرِّرُ وجود الأديان..
وللإيمانِ بُعدان على حدِّ قولِك سيدي: «بُعدٌ إلهي وبُعدٌ إنسانيّ»،
في البُعدِ الإلهي لا شأنَ لأحدٍ أن يكون ديّاناً على أحد، فشأنُ الإنسان وربّه فحسب..
وفي البُعْدِ الإنساني الموقفُ الحقّ.. إنّما هو معانقةُ الحقيقةِ الاجتماعيةِ والإنسانُ المستضعَفُ والمحروم إنما هو الأساسُ والمعيار..
سيدي الإمام القائد
في التحرير: انتصر خَيارك فكراً وممارسة بانتصار المقاومة، وانهزام خيارات الخنوع والاستسلام والتسليم بالأمر الواقع، وكان لكم سيدي في ساح المعركة مع العدو الصهيوني، وعيٌ ثوري مُبكر جسّدتَه بتأسيس أفواج المقاومة اللبنانية «أمل»، حيثُ «السلاح زينة الرجال» لمقاتلة «إسرائيل» فهي «الشَّر المطلق» لا تنهزم سوى بقوةِ الخير المطلق، بالحقِّ، بالدمِّ، بالشهادة، وبُقوّةِ الكفاحِ الشعبيِّ المسلح..
انتصر خيارُك سيدي خيار المقاومة بعد أكثر من ستين عاماً على اغتصاب أرض فلسطين، وتألّقت الحقيقة التاريخية في ظُلمة المقولات الاستسلامية، وفي زحمَة التنظيرات الانهزامية التي سادت الساحة لسنوات وسنوات، أبرزها:
«إسرائيل شرّ مطلق»… «مقاتلتها طرقٌ لبابِ المستحيل»…! «كان ينبغي أن نقبلَ بتقسيم فلسطين، فلا نقاتل الصهاينة ولا نعادي أميركا…! «لبنان قويٌّ بضعفه»! إلى آخر المعزوفات…
بعد أكثر من ستين عاماً على مثل هذه المقولات الاستسلامية الانهزامية، من الأمثال والأقوال وسواها، انتصر في النهاية خيارُ المقاومة بشعاركم وشعارُ: «ما أخُذ بالقوة لا يُسترَدّ بغير القوة»…
ـ انتصرت الحقيقة التاريخية التي أكدت أنّ المقاومة المسلحة هي الخيار الرئيسي للشعوب حين تُحتَلّ أوطانها، فلم تذهب هباء دماء الشهداء في مسيرة التحرير.
وفي تراث الأمة الجهادي، كانت انتصارات وتضحيات لمجاهدين ومناضلين ومقاومين خاضوا في ساحات القتال ضدّ الاستعمار معارك التحرّر والاستقلال، كانت ثورة المليون شهيد الظافرة في الجزائر، وكان التصدّي البطولي في مصر العام 1956 للعدوان الثلاثي «الإسرائيلي» البريطاني الفرنسي، وكانت معركة الكرامة التي خاضتها المقاومة الفلسطينية في العام 1968 ضدّ الصهاينة، وكانت حرب تشرين المجيدة في العام 1973، وقبلها، بعيداً في تاريخ العروبة والإسلام كانت معارك العزِّ والعنفوان جُبلت فيها النضالات والتضحيات، بدماء الشهداء فشكّلت تراثاً جهادياً ومخزوناً كفاحياً وقوةَ دفعٍ لانطلاقة المقاومة في لبنان، فكانت امتداداً طبيعياً لهذا التراث النضالي العربي والإسلامي.
وكما انتصر خيار المقاومة الشعبية المسلّحة في التاريخ وفي تجارب الشعوب، انتصر في لبنان، أيضاً كأسلوبٍ أساسيّ رئيسي، ترفده، وتعزِّزه كلّ أشكال المقاومة بتجلياتها السياسية، الدبلوماسية، الثقافية، الروحية، الاقتصادية، الاجتماعية، الإعلامية، الفنية وسواها من التجليات والإبداعات…
ــ لقد انهزمت المقولات التي روّجت ونظَّرت للاستسلام، للخنوع، للخيانة، حينَ طَرقتَ سيدي الإمام القائد في جنوب لبنان باب الأمل لمجابهة المستحيل، أو ما كان يبدو مستحيلاً، بطرح خِيار المقاومة المسلحة، تمكّن شعبُنا المقاوم من المحرومين والمستضعفين الراسخ إيمانُهم، وعزيمتُهم، وثباتُهم، واستبسالهُم، من قهر القوة التي لا تُقهر. ولأول مرة في تاريخ الصراع العربي الصهيوني، وبعد صمود لبنان المقاومة أمام مجازر الإبادة والتدمير، وتصدّيه لعدوانَيْ 1993 و 1996 المعروفين بـ«تصفية الحساب» و«عناقيد الغضب»، تمكّنت المقاومة عام 2000 من تحرير الجزء الأكبر من تراب جنوبنا الغالي بالقوة، وإلزام «إسرائيل» بالانسحاب بلا قيدٍ ولا شرط بلا أيِّ ثمن ندفعه من كرامتنا وسيادتنا.. وفي عدوان تموز الهمجي والعالمي على لبنان عام 2006 كان الانتصارُ التاريخيّ والاستراتيجيّ للمقاومة على العدو الصهيونيّ وحلفائه، انتصاراً أسطورياً، غير مسبوق، في تاريخ الصراع العربي ـ الصهيوني، وما زالت تداعياته وآثاره ومفاعيله تتفجّر زلزالاً داخل الكيان الصهيونيّ، وفي البيئة الإقليمية والعالمية، ولا سيما داخل المعسكر الإمبرياليّ وحلفائه وأدواته، وما زال هذا النصر العظيم يفعل فعله الإيجابي في ترسيخ ثقافة المقاومة وبناء المجتمع المقاوم على صعيد الأمة، وعلى مستوى أحرار العالم وشرفائه…
لم يعُد لبنان، اليوم، قوياً في ضعفه… بات لبنان قوياً بمقاومته، خياراً، ونهجاً، وسلوكاً، وقيماً، وثقافةً، وبشعبه، وجيشه الوطني، وبدعم دول الممانعة في العالم التي تحترم حريّتها واستقلالها وسيادة قراراتها على ترابها.
إنّ الوفاءَ لكم سيِّدي الإمام القائد في معركة التحرير لا يكون اليوم، سوى بالمزيد من الالتفاف حول معادلة الجيش والشعب والمقاومة.. وينضمُّ إليها الجيش العربي السوري..
إنّ هذه المعُادلة الذهبية هي التي صنعت النصر على العدو الصهيوني في العام 2000 وفي العام 2006، وهي التي تصنع العيد الثاني والتحرير الثاني في العام 2017 بالنصر المبين على الإرهاب التكفيري وهو الوجه الآخر لإرهاب العدو الصهيوني… واستكمال تطهير تراب الجرود اللبنانية من آثار التوحّش الإرهابي الذي خلّف وراءه شهداء مجازر وجرائم تجسَّدت خطفاً لأبناء جيشنا الوطني من كبار شهدائنا وذبحاً وقتلاً وتفخيخاً ونسفاً وتفجيراً دفع اللبنانيون في مجابهته دماً وألماً ودماراً.
ولا يسعنا في السياق إلا توجيه تحية الإجلال والإكبار لشهداء جيشنا اللبناني الوطني الأبي ولجرحانا البواسل في المعارك البطولية لعملية فجر الجرود والتحية والعزة والإكبار لشهداء وجرحى المقاومة والجيش العربي السوري في المعارك الباسلة التي خاضها أبطالنا بشعار «وإذا عُدتم عُدنا».
أما في التغيير، فلقد انتصر خيارُك سيدي الإمام القائد نظرياً بمنظومة المبادئ الوطنية، وبقيم النزاهة والكفاءة لبناء دولة القانون والمؤسسات، فلا خلاص للبنان إلا بتعاليمكم…
لقد أمسكتم سيدي الإمام القائد بناصية آفة الآفات، وعِلة العلل في لبنان، ألا وهي الطائفية البغيضة، ورأيتم بديلها في الديمقراطية، وفي الوحدة الوطنية، وجسَّدتموها ممارسةً عبر التزامكم اجتماعياً خندق المحرومين من كلّ الطوائف، ومن كلّ المذاهب، والشيع…
وللتغيير في رأيكم سيدي الإمام ثلاثة أبعاد:
ــ البعد الوطني، ويكمن في اللاطائفية والوحدة الوطنية.
ــ البعد الاجتماعي، ويكمن في التزام مصالح الفقراء والمستضعَفين والمحرومين.
ــ البعد السياسي، ويكمن في بناء دولة القانون والمؤسسات.
وإذا كان عماد التحرير إنما هو المقاومة المسلحة خياراً، ونهجاً، وسلوكاً، وقيماً، وثقافةً، فإنّ عماد التغيير عندكم سيدي الإمام إنما هو: اللاطائفية، والوحدة الوطنية، والقضية الاجتماعية والإنمائية، لبناء دولة القانون والمؤسسات، دولة الرعاية والعناية بالإنسان، الدولة النزيهة والعادلة بين المناطق، وبين أبناء الشعب الواحد، الدولة العزيزة القوية على العدو، وعلى الفساد والفاسدين، القادرة على حماية سيادتها وحريتها واستقلالها.
الوفاء لكم سيدي الإمام القائد، في ذكرى غيابكم، يكون باستحضار مفاهيمكم وقيمكم وتعاليمكم ومبادئكم، وبالعمل بلورة موازين قوى قادرة على إنجاز الإصلاح والتغيير بوضعِ قانونٍ للانتخابات يُعيد تكوينَ السلطة جذرياً، ويحقّقُ التمثيل الشعبي الصحيح على قاعدة النسبية الكاملة ولبنان دائرة انتخابية واحدة، ويُشرك الشباب من سنّ 18 عاماً في القرار السياسي بإعطائهم حق الانتخاب، ويحرّر إرادة الشعب من تأثير سلطان المال، والإقطاع، والطائفية، لتأتي سلطة تشريعية تكون أساساً لقوة دفع في التحرير والتغيير، تنهض بالوطن محرّراً نقياً من رجس الاحتلال الصهيوني، ودنس الإرهاب التكفيري ومحرّراً من الارتهانات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والإعلامية وسائر أشكال الارتهانات…
إذا كان غياب الإمام لا يولّد سوى الألم العميقِ والأسى في القلوب والعقول، فإنّ التزام المفاهيم والقيم والمهمات الوطنية والقومية والإنسانية التي خلّفها لنا الإمام القائد، حقّ علينا، والوفاء لها يكون بالنضال من أجل تجسيدها فعلاً لا قولاً على أرض الواقع…
ولقد كان الأخ والصديق الرئيس نبيه بري، كرئيس لحركة أمل، الوطنيَّ الوفيَّ لنهج الإمام القائد موسى الصدر وخيار المقاومة في معارك التحرير، وإنّ لنا في ما يَشغَلُهَ من منصب لرئاسة مجلس النواب، الأمل الاقتحامي بأن يكون الحصن الحصين في معارك الإصلاح والتغيير.
ويتجدّد الرجاء بأن ينهض لبنان على صورة أحلام شهدائنا والمقاومين، وعلى صورة الأمل الذي بعثه في نفوسنا الإمام القائد السيد موسى الصدر من خلال مبادئه وقيمه وتعاليمه، وفي سياق مسيرته الجهادية.
سيدي الإمام «زرعُكَ أثمرَ وَطناً»…
أمين عام رابطة الشغيلة
نائب ووزير سابق