روسيا «العظمى» مولودة الشرق الأوسط الجديد
روزانا رمّال
لدى بدء الحرب في سورية كان من المفترض أن يتوقف الرئيس السوري بشار الأسد جدياً أمام مسألة التأييد الدولي الذي حازته ثورات عربية متتالية كما في تونس ومصر وليبيا، وكيف رفع الغطاء الأميركي عن أنظمة سابقة كانت قد رعتها فتدحرجت أسماء دول وعواصم كبرى، كان بينها روسيا التي أخذت مواقف إيجابية تجاه دعم التغيير في الدول المذكورة، حتى جاء قرار دعم التدخل العسكري في ليبيا وصوّتت موسكو معه، وكان التحالف الدولي هناك الذي نفّذ المهمة وبعد كل هذا وذاك كانت النتيجة المأساوية في ليبيا التي لا تزال ترزح تحت نير السواد القاتم.
يتحدّث ديبلوماسي روسي في بداية الأزمة السورية لـ «البناء» عن هذه المسألة ويؤكد أن روسيا ارتكبت خطأ جسيماً في دعم العمل العسكري في ليبيا، لكنه يشير إلى أن أحد أبرز أهداف الحرب في ليبيا كان إخراج روسيا منها، وقد تمّ طرد العاملين والموظفين في محطات الغاز تحديداً في ليبيا لأهداف استنتجتها روسيا متأخرة. وهو الذي لن تقبل به في سورية. ويضيف «كل شيء كان ملتبساً بالبداية… يمكن أن تكون موسكو اخطأت التقدير بحق ليبيا ولم تعرف نيات الغرب الحقيقية في تحجيم حضورها، لكن هذا لن يتكرّر أبداً بعد الآن. فالثورات تحوّلت حرب تصفية حسابات بين الدول، بكل ما للكلمة من معنى وروسيا لن تكرّر خطأها في ليبيا».
لكن وبالرغم من هذا الموقف الروسي إلا أن هذا الأمر كان بحد ذاته تحدياً على الأرض السورية فقد ساد الحذر القرار الروسي لوقت لا يُستهان فيه حتى بدأت مفاعيل المواقف الروسية عام 2012 تظهر الى العلن. في هذا الوقت كانت العيون تتجه نحو الرئيس السوري بشار الأسد الذي بدا واثقاً بأن قرار حلفائه سيصب بنهاية المطاف لمصلحة الحفاظ على العلاقة مع دمشق، وضمن هذه الحسابات كانت روسيا مستعدة للتقدم بخطى ثابتة نحو دعم بقاء الدولة السورية ككيان واحد متماسك.
تغيّرت روسيا في سورية ومن خلال سورية كثيراً، فقد بدأ الموقف الروسي بدايات الأزمة بسقف «الحماية» بالفيتو، لكن الإصرار على إسقاط سورية فتح عين روسيا أكثر مع حجم العروض والضغوط وتواليها لتغيير موقفها لتكتشف الأبعاد الدولية الإقليمية للحرب وأن الأمر ليس مجرد حماية إطار تطبيق القانون الدولي بوحي ما حدث في ليبيا.
وصلت روسيا لقرار الحرب ودخولها عسكرياً بعد إغلاق أبواب الحل السياسي التي سعت إليها مع الأطراف الدوليين وفق معايير حكومة موحّدة وانتخابات، لكن بدون جدوى، فالطرف الآخر ركز كثيراً على إمكانية تحقيق هدفه عبر استخدام السلاح المكثف ضد النظام ودعم السيطرة على محافظات واسعة التأثير، أبرزها حمص وحلب حتى وصل الخطر الى دمشق. كان على روسيا التحسب للتصادم مع أميركا و»إسرائيل» وتركيا عسكرياً وخسارة علاقاتها بالخليج، لكنها رغم ذلك قررت مع التدخل المباشر السير بحذر فوجدت نفسها أمام خيارات أولها «التصادم» مع تركيا، فرفعت سقفها مع الجميع واكتشفت قوتها.. قوة الحضور الروسي وهالته الدولية في المنطقة بعيون الجوار.
تذوّقت روسيا طعم «قوتها» كدولة عظمى في خبرتها من خلال الحرب السورية ووجدت مرات عدة، أنّها مضطرة للتلويح بكونها جاهزة لمواجهة مفتوحة، وهي تعلم أنها تقف مع جيش يقاتل بشراسة وحلفاء أشداء يُعتمد عليهم، لكن كل هذا لم يكن دليل مدى التحدي الذي بلغته حتى لحظة مجاهرتها باعتبارها حزب الله كـ «منظمة» أحد شركائها الاستراتيجيين على الأرض السورية الذي يعمل لمصالحها وأهدافها نفسها، حتى وصلت الأمور حدّ أن تتدخل لتسيير تفاهم حزب الله وداعش لتحرير أسيره وإفهام أميركا أن أي تخريب على الاتفاق في دير الزور مؤخراً هو «خط أحمر».
أبلغت روسيا مندوبي أميركا و»إسرائيل» في الأمم المتحدة أن أي مشروع قرار يستهدف حزب الله سيلاقي «الفيتو»، ومَن كان يتوقع هنا أن تبلغ مواقف روسيا هذا الحدّ بداية الأزمة السورية؟ من دون شك روسيا ترى اليوم ان هامش التحدي صار أعلى وأنها قادرة على فرض ما لم تكن قادرة عليه في المرحلة السابقة، من جهة أخرى تأثرت روسيا عبر موقفها الواضح في سورية بالاستفادة من ملف جزيرة القرم والتهديد الذي حاول الغرب التلويح فيه من بوابة حديقتها الخلفية وحدودها مع الجيران من دون أن تفصل الارتباطات والحسابات الغربية الكبرى باتجاه تحجيمها.
روسيا الدولة «العظمى»، الحليفة الحقيقية لقضايا المنطقة ولدت في رحم الحرب، وهي روسيا جديدة غير التي كانت في بداياتها… المنطقة غيّرت روسيا وروسيا الجديدة ستغيّر المنطقة. وها هي ترسم خرائط طريق الحل في سورية عبر جولات «استانة» التي استطاعت فيها ترويض الخصوم وتعديل مواقف الحلفاء، لتكون المصلحة المشتركة خاتمة أي إخراج للملفات العالقة في سورية من دون أن تتخلى عن واقعية ما تحكمه الجغرافيا السياسية ما يعزّز مكانتها على أي طاولة للمفاوضات. وهو الأمر الذي يغيب عن الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها الذين لا يستطيعون تقديم ما يمكن لموسكو تقديمه وما تمنحه الطبيعة لها من عناصر نفوذ وقوة، ولادة الشرق الأوسط الجديد ربما كان يعني ولادة روسيا العظمى.
فبعد أن أعلنت أميركا عزمها على توليده كانت روسيا هي الولادة.