مصير شعوب المنطقة يُكتب في العراق
أسامة العرب
يقول أستاذي دولة الرئيس سليم الحص: «كنا نقول، إن مصيرنا يُكتب في فلسطين، أما اليوم فبتنا نقول بأن مصيرنا يُكتب في العراق، سيما بعدما تمكّن المشروع الصهيوني من تفجير التناقضات الفئوية في البلد الشقيق، الإثنية منها على خطوط الفرز بين عربي وكردي، كما المذهبية منها على خطوط الفرز بين سني وشيعي». واللافت اليوم هو كمية الدعم الذي يلقاه إقليم كردستان من «إسرائيل» وبعض الدول العربية الصديقة لها للمضي قدماً بمشروع الانفصال عن دولة العراق، وذلك بهدف تأجيح الصراعات في المنطقة بين الاثنيات المختلفة، وللسير قدماً بمشروع تقسيم المنطقة لجزيئات صغيرة متنازعة ومتناحرة، تخضع للاستعمار «الإسرائيلي» المباشر.
وقد عبّر نوري المالكي عن خطوة البرزاني بالقول: «إن المصالح المشتركة بين أربيل وتل أبيب كبيرة جداً، على مختلف الصعد السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية»، ويبدو بأن إيران تخشى من قيام قاعدة عسكرية «إسرائيلية» – أميركية على حدودها الشمالية الغربية، كما يبدو بأن تركيا تخشى من ثورة كردية تنطلق من حدودها الجنوبية الشرقية.
وبالتالي، فإن وحدة الدولة العراقية ليست مهددة فقط بالمشاريع التقسيمية، بل سورية وإيران وغيرهما، حيث تسعى «إسرائيل» إلى إشعال الحرب الأهلية في العراق وتصديرها إلى سائر أرجاء المنطقة. ومن الطبيعي أن تتوجّه أنظار الموساد «الإسرائيلي» للتغلغل على وجه ملحوظ داخل الإقليم الكردي، تمهيداً لإشعال المنطقة بحروب فتنوية لا قيمة لها، باعتبار أن الإقليم الكردي يتمتع أصلاً باستقلال نسبي منذ فترة طويلة الأمد.
إن سلاح «إسرائيل» الذي تُشهره بوجه محور المقاومة، هو سلاح التقسيم ودعم التنظيمات التكفيرية التي ترمي لتحقيق الغاية نفسها، هذا مع الإقرار بأن زرع المتفجرات وتفجير السيارات المفخّخة في مناطق آهلة بالمدنيين، مثل ما يقع في العراق وسورية اليوم، إنما ينطوي على الفكر الإرهابي نفسه الذي تنتهجه العصابات «الإسرائيلية» التي قامت بتهجير ستة ملايين فلسطيني في بقاع الأرض كافة. ولذلك، فلا عجب أن نسمع مؤخراً عن دعم دولي لمشاريع الانفصال والتوطين، والتي لا تستثني أحداً من النازحين، بما يضمن تحقيق الفرز الفئوي الذي ترى فيه الدول العظمى سبيلاً لزعزعة استقرار دول الممانعة.
وهكذا، فإن الدعم الدولي والإقليمي الذي يُقدَّم للمشاريع الانفصالية يندرج ضمن سياق قلب المعادلات، ونقل الصراع إلى داخل البيت الواحد، فعوضاً عن التوحّد من أجل مواجهة الاحتلال «الإسرائيلي» دفاعاً عن فلسطين والقدس والمقدّسات، وعوضاً عن السعي لتحرير الأسرى الأبطال ورفع الضيم عن المستضعفين من أبناء أمتنا، يتمّ دعم الإرهابيين الذين لا يتوانون عن القتل والدمار والتعذيب والسبي والاغتصاب، ناهيك عن الدعم الذي يُقدّم للمجموعات الراغبة بالانفصال عن محيطها، من أجل تحقيق مكاسب مادية رخيصة.
إن سطوة الاحتلال وهيمنة الخارج تنخر وحدة شعوبنا في الأقطار كلها، ومن ثم تمحق قضايانا المحقّة، وبالتالي مصيرنا ومستقبلنا الواحد والموحّد. ومن هذا المنطلق، يسعى الكيان الصهيوني ليل نهار لتعميم الفتنة في مجتمعاتنا بفعل الفوضى التي تُحاك وتدبَّر لنا. فألم يرَ كل مؤيد لانفصال الإقليم الكردي، كم تطالعنا الأخبار عن وقوع عدد كبير من المجازر يومياً في العراق بين قتيل وجريح؟ وألم يرَ حجم المجازر التي ارتكبت مؤخراً بحق الأبرياء العزل باسم الديمقراطية والحرية؟ وألم يرَ أن هذه الفوضى الخلاقة التي يتحدث عنها المسؤولون الكبار، ترمي بحقيقتها لتقسيم المنطقة من أجل طمس المشروع المقاوم؟ وأدهى ما في المشهد أنك ترى من يرفض مقاومة المشاريع التي تجعل من أبناء شعبه ضحية المخططات الفتنوية والدموية، والاستعمار «الإسرائيلي» والفوضى الخلاقة. بهذا المعنى، يمكن القول بأن التناحر على السلطة بعد التنافس على تحرير الوطن من الإرهاب التكفيري، هو أمرٌ مخزٍ. العدو ما زال هو هو، وهو الذي اغتصب أرضنا وزرع فيها التنظيمات التكفيرية، وسعى ويسعى لقتل الأطفال والنساء والشيوخ. ولا غروَ أن في انقساماتنا نشجّعه على المضي قدماً في غيّه وإجرامه.
قد تتضارب الآراء حول سرّ هذا الدعم الدولي لانفصال إقليم كردستان، فمنهم مَن يرى فيه سعياً للتضييق على إيران ولتهديدها بقواعد عسكرية، ومنهم مَن يرى فيه دعماً لإقامة كيان كردي موحّد يقتطع أجزاءً ثرية من العراق، إيران وسورية وتركيا، ومنهم مَن يرى فيه منفذاً لانفصال أقاليم فئوية أخرى، ولكن الجميع يجمع بأنه يشكل ضرباً لوحدة المشروع المقاوم الذي بات يخيف «إسرائيل»، ويجعلها تجري مناورات عديدة على الحدود اللبنانية السورية، تمهيداً لحرب مستقبلية، قد تكون قريبة.
إن التاريخ الحديث حافل بالدعم المطلق لـ«إسرائيل» وكل الدول العربية أو الإسلامية التي تؤيد بقاءها وإطلاق يدها في شؤون المنطقة، من أجل تحقيق حلم الدولة اليهودية التي تبسط نفوذها على أراضي الغير من النيل إلى الفرات. ومن هنا، نجد أن بعض دول المنطقة تستقبل المسؤولين «الإسرائيليين» في بلادها أو في نطاق المؤتمرات الدولية بحفاوة لا مثيل لها، حيث تعلو أصوات الضحكات والقهقهات ويتم الحرص على أخذ الصور التذكارية كي لا تفارق هذه الواقعة الخلّابة أذهان أصحابها. هذه نماذج حية معاصرة عمّا نعانيه، ولعلّ الأخطر منها ما بتنا نسمعه عن تطبيع عربي يجب أن يسبق التسوية على التسوية الفلسطينية، وعن مشروع الدولة الفلسطينية البديلة في غزة وسيناء.
ليس من حقنا بتاتاً أن نضيّع البوصلة، فلا نعود نعرف العدو من الصديق، وليس من حقنا أن نساعد المشاريع الاستعمارية لتجزئة المجزأ وتقسيم المقسّم، وليس من حقنا أن نهدر دماء الأبرياء في حروب أقل ما يُقال فيها بأنها حرام! إننا نلتمس رضوخاً أعمى للإرادة الدولية، وانحيازاً سافراً لـ«إسرائيل» على حساب القضية الفلسطينية، والمصير المشترك.
أهم ما في الأمر، أن المسؤولين في الغرب يروّجون دوماً إلى الحريات، ولا نرى منهم سوى الدمار والفوضى والفتن والقتل والتشرد، ولماذا لا يعترفون يا تُرى بحق الشعب الفلسطيني بتقرير مصيره، أو حتى بالدولة الفلسطينية المستقلة؟ ولماذا لا نراهم يقدّمون الدعم سوى للمشاريع الفتنوية التي تهدّد وحدة شعوبنا وتزرع الكراهية والأحقاد بين أبنائها؟ وهكذا يبدو واضحاً كيف يتم تمييع الحقوق بين مفاهيم الحضارة الحديثة، فالحق لا يكون حقاً عندما يتم ضرب المصالح العامة والقومية بالمصالح الشخصية والفئوية، والعدالة لا تكون عدالة عندما يتم جرّ الكيان الصهيوني للهيمنة على دولنا ولنهب مقدراتنا، لاسيما أن العراق يُعتبر بأنه ثاني أغنى بلد عربي بالثروة النفطية.
وأخيراً، إن الاستفتاء المزمع إجراؤه في الخامس والعشرين من الشهر الحالي لقيام كيان كردي شمال العراق، يشكل وسيلة تستغلها الدول العظمى لتفتيت المنطقة وللإعلان عن تأسيس تحالف جديد مع كيان الاحتلال. وسيسجل التاريخ قريباً أن محور المقاومة تمكّن من هزيمة سياكس – بيكو الجديد وحدوده الدموية، وأنه بعد إعلان انتصاره على التنظيمات التكفيرية وتقزيم «إسرائيل» تباعاً، ستكون الأولوية لتوحيد صفوف المشروع المقاوم ولاستعادة الأراضي المحتلة صهيونياً، ولن تبقى هنالك من أوراق بيد الدولة العظمى سوى الرضوخ للهزيمة التي مُنيت بها، والتسليم بالأمر الواقع، كما سلمت سابقاً بهزيمة الكيان الصهيوني في عام 2000 وفي صيف 2006، وكما سلّمت سابقاً بأن الشعوب المقاومة عصية عن الانقياد للقوى العظمى.
محام، نائب رئيس
الصندوق الوطني للمهجرين سابقاً