«استفتاء» البرزاني
زياد حافظ
«الاستفتاء» الذي جرى في إقليم كردستان يشكّل تحوّلاً نوعياً وهاماً في المعادلات الإقليمية والدولية في آن واحد. وهذا «الاستفتاء» يستدعي ملاحظات عدّة من التيّار العروبي. فالملاحظة الأولى هي التأكيد مرّة أخرى على إقرار الحقوق المشروعة لـ«الشعب الكردي» في إقليم كردستان في العراق. وليس هناك أيّ تحفّظ على هذه الحقوق. نذكّر هنا أنّ القائد الخالد جمال عبد الناصر، الذي نحيي هذه الأيام ذكرى رحيله المبكر، قد أقرّ ودعم الحقوق الوطنية والقومية للأكراد. كما نذكّر أيضاً أنّ حزب البعث الحاكم في العراق قد أقرّ في آذار 1970 تلك الحقوق في كنف الدولة المركزية، غير أنّ الظروف حالت دون التطبيق الفعلي لتلك الاتفاقية. ومنذ تأسيس المؤتمر القومي العربي عام 1990 هناك تأكيدات من التيّار العروبي حول تلك الحقوق. وكذلك الأمر بالنسبة لمنشورات مركز دراسات الوحدة العربية. ونذكّر أنّ من بين أعضاء المؤتمر القومي العربي شخصيات من الإقليم من أبرزهم المرحوم الدكتور وميض عمر نظمي الذي تعرف القيادات الكردية موقفه الداعم للحقوق الكردية، ولكن في كنف عراق موحّد.
هنا لا بدّ من التذكير أنّ الأزمة القائمة بسبب «الاستفتاء» هي من تداعيات الاحتلال الأميركي وما نتج عنه من «عملية سياسية» ودستور بريمر الذي نزع عن العراق عروبته. والعملية السياسية لم تكن إلاّ صيغة للمحاصصة بين مكوّنات العراق تمهيداً لتقسيمه وليس للحفاظ على وحدته بل حتى لتدميره. ومسعود البرزاني كان أحد المشاركين في صوغ الدستور، وفي العملية السياسية.
ونتمنّى على أولئك الذين يتّهمون التيار العروبي بـ «الشوفينية» ويجاهرون بنصرتهم للحقوق القومية للأكراد وغير الأكراد أن يعترفوا وأن يقرّوا بالحقوق القومية العربية، ولو من باب الحياء. فأعداء الأمة لا يريدون الاعتراف بها، ولا بالحقوق القومية ولا حتى الوطنية العربية الهوى والهوية. فالمنطقة تجمّع فقط للأديان والمذاهب والأعراق ولا حقوق قومية ولا حتى وطنية، إلاّ للمجموعات التابعة للقرار الغربي والصهيوني. غير أننا نعتبر أنّ مكوّنات الأمة متعدّدة، وأننا نعتزّ بالتنوّع الموجود فيها منذ قرون بل منذ آلاف السنين وتساهم بشكل مباشر في تكوين الهوية العربية.
ما يثير قلق العروبيين هو أن تتحوّل تلك الحقوق التي يطالبها الأخوة الأكراد إلى حوافز لمعاداة القضايا القومية، بدءاً بتحرير فلسطين من البحر إلى النهر إلى إقامة دولة الوحدة بغضّ النظر عن شكلها الدستوري. فمن الصعب أن يقبل العروبيون بأن يتحوّل إقليم كردستان إلى قاعدة صهيوأميركية تستهدف مصالح العرب كما تستهدف استقرار المنطقة ونعني استقرار كلّ من سورية والعراق وأيضاً الجمهورية الإسلامية في إيران وتركيا. فمهما كانت التباينات بين العروبيين والجمهورية الإسلامية في إيران وتركيا في قضايا المنطقة، فإنّ الاستقرار هو من الأهداف الرئيسية للمشروع النهضوي العربي الذي نريد ونناضل من أجل تحقيقه. هذه الحقيقة يجب أن تكون في صلب الحوار الذي يجب أن يقيمه العروبيون كنخب مؤثرة والهيئات الشعبية وكدول عربية مع الأطراف المعنية كافة في مقاربتها للملف الكردي، إذا جاز الكلام.
الملاحظة الثانية تتعلّق بالدعم الصهيوني المعلن والمباشر لما حدث في الإقليم. ونؤكّد هنا أنّ التأييد الصهيوني الصريح للاستفتاء وفي ما بعد لعملية الانفصال هو جوهر التحفّظ العربي. كما أنّ وجود الصهيوني المعروف برنار هنري ليفي في مكاتب الاقتراع يثير الريبة إذا ما تمّ الانفصال الأحادي بتشجيع صهيوني. فالقتل والدمار الذي لحق بليبيا وفي أوكرانيا وفي سورية من جرّاء دعم شخصيات صهيونية معروفة بكراهيتها للعرب أمر مقلق للغاية في الحدّ الأدنى، وينذر بما قد يقدم عليه العدو الصهيوني وحلفاؤه في المستقبل. غير أننا نعتقد أنّ الصهاينة يستعملون الانفصال الكردي ليس إيماناً بحقوقهم بل لاستخدامهم في عداء الكيان للعرب وللمسلمين أجمعين. فالورقة الكردية هي ربما آخر الأوراق بيد الكيان الصهيوني لاستنزاف دول الجوار بدءاً بمحور المقاومة وحتى «الصديقة» تركيا. فالكيان أولاً وأخيراً عدو العرب والمسلمين.
الملاحظة الثالثة هي في التساؤل حول يقين «الاستفتاء» بمعنى هل يعبّر عن إرادة فعلية للشعب في إقليم كردستان أم عن مصالح ضيّقة لفئة معيّنة من النخب الحاكمة في الإقليم الكردستاني. فهل مكوّنات السليمانية تتماهى مع مكوّنات أربيل؟ وهناك معلومات تفيد بتلاعب كبير في صناديق الاقتراع ما يزرع الشكوك في نفوس المراقبين. والنتائج العالية جداً تذكّرنا باستفتاءات سابقة أو انتخابات كان يفوز فيها القائد بشبه إجماع. فهل صحيح أنّ جميع مكوّنات المجتمع الكردي تريد الانفصال عن الدولة العراقية؟ هدف «الاستفتاء» هو الإيحاء بالـ»نعم» على ذلك السؤال، غير أنّ الحقائق قد تكون مخالفة.
الملاحظة الرابعة تتعلّق بالظروف الموضوعية التي جرى فيها الاستفتاء. الوقائع تشير إلى أنّ وضع إقليم كردستان في دعوة بعض نخبه الحاكمة والفاقدة أيّ شرعية دستورية، وحتى داخل الإقليم، تختلف عن سوابق حصلت في الوطن العربي. وكما أشار العديد من المراقبين المخضرمين فانفصال السودان حصل بعد اتفاق الدولة المركزية في السودان مع الانفصاليين. كما أنّ الدول المجاورة لجنوب السودان كانت داعمة لذلك، بينما الواقع يختلف جذرياً في ما يتعلّق بإقليم كردستان. رغم كلّ ذلك نعلم جميعاً ماذا حصل في جنوب السودان بعد «الاستقلال». أما بالنسبة لإقليم كردستان فلا توافق مع الدولة المركزية، ولا توافق ولو بالحدّ الأدنى مع دول الجوار، لأنّ الانفصال المرتقب يهدّد الأمن القومي لدول الجوار. وهذا ما لا يمكن أن تقبله هذه الدول. فما هو فعلياً مستقبل «الانفصال»؟
في تقديرنا، كانت هناك تطمينات مشبوهة، من قبل الكيان الصهيوني والولايات المتحدة، وحتى من بعض الدول العربية التي تراهن على تحالف خليجي صهيوني كردي يوازن التحالف الإيراني السوري والتفاهم الممكن مع تركيا، على أنّ دول الجوار لن تجرؤ على إغلاق الحدود والأجواء في الإقليم. لكن بات واضحاً أنّ التنسيق بين الحكومة المركزية ودول الجوار كان في مستوى عالٍ، ومنذ فترة سبقت الاستفتاء ما يدلّ على خطأ فادح في تقدير ميزان القوة لدى القيادة الكردية ومَن يدعمها ويشجّعها على الانتحار السياسي. من هنا نفهم أبعاد الانقلاب الفاشل على أردوغان، والذي شجّعته وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، والذي أفشلته الاستخبارات الروسية. إبعاد أردوغان كان ضرورياً لتمرير المشروع الكردي بعد الفشل المرتقب للمشروع الداعشي. لذلك بدأت على ما يبدو رحلة التراجع في تصريح البرزاني إلى صحيفة تركية مفادها أنّ الهدف ليس الانفصال بل الحوار من أجل تصحيح الخلل في أداء حكومة بغداد، وكأنّ أداء حكومة الإقليم يخلو من أيّ خلل! في كلّ الأحوال فإنّ هناك أموراً عدّة تجعل تحقيق الانفصال من القضايا الصعبة للغاية، إنْ لم تكن مستعصية، إضافة لما أشرنا إليه أعلاه.
أول هذه الأمور هو أننا لسنا متأكدين من وجود توافق بين مكوّنات المجتمع الكردي، رغم الادّعاءات المعاكسة، ليس فقط على الانفصال بل على العديد من القضايا السياسية والاقتصادية. ثانياً، هناك تحفّظات كبيرة على شرعية رئيس الإقليم الذي انتهت ولايته منذ سنوات عدّة. ثالثاً، إنّ البرلمان في الإقليم كان معطّلا طيلة الفترة السابقة ولم يُدعَ إلاّ للتصويت على إجراء الاستفتاء، كما أنّ رئيسه ما زال في المنفى ما يدلّ على وجود أزمة سياسية داخلية متفاقمة في الإقليم. رابعاً، وربما الأخطر في رأينا، الفساد المستشري في الإقليم والهوّة المتنامية بين النخب الحاكمة وعامة الشعب في توزيع الثروات، ما أدّى إلى غياب الكفاءات عن إدارة المؤسسات، علماً أنّ الإقليم في حالة حكم ذاتي منذ أكثر من عقدين بـ «فضل» التدخل الأميركي. فالثروات النفطية هُدرت لمصلحة القلّة الحاكمة وهناك ما يوازي 200 مليار دولار من عائدات النفط التي تعود إلى الدولة المركزية ما زالت مجهولة المصير. كما أنّ العجز في موازنة الإقليم أدّى إلى نشأة دين عام يوازي 20 مليار دولار رغم الثروات النفطية والغازية والمعدنية الموجودة. فلا حسابات ولا شفافية ولا أيّ نوع من الرقابة التي تؤدّي إلى مساءلة ومحاسبة وإلى تثبيت فعلي للدولة. فما ظهر من استثمار في الحجر لا يوازي ما كان مفروضاً أن يُستثمر في البشر. وبالتالي إدارة الدولة الانفصالية ستصبح قاب قوسين.
مهما كانت الأخطاء المنسوبة للسلطة المركزية في بغداد، غير أنّ الأخوة الأكراد شركاء فاعلين فيها وفي أخطائها وهم مَن ساهم في صوغ الدستور العراقي. فقد استفادوا من الدولة المركزية بينما الأخيرة أُقصيت من إدارة الإقليم. فهل أصبحت الخلافات السياسية والمالية بين القادة مبرّراً للانفصال وللمآسي التي ستنتج عنه؟
أمين عام المؤتمر القومي العربي