تفكك الناتو ونظام ما بعد الحرب العالمية
ناصر قنديل
– بعد تفكك الاتحاد السوفياتي وحلف وارسو، رغبت واشنطن بتوسيع حلف الناتو إلى حدود روسيا، لكنها اصطدمت بموقف روسي صلب، حال دون ضمّ دول تشكل حديقة خلفية لروسيا كحال أوكرانيا، فتراجعت، وشكّل التراجع إعادة رسم للخطوط الحمراء في اللعبة الدولية، وجاءت الحرب التي جنّدت لها واشنطن على سورية عشرات الدول الحليفة داخل الناتو وخارجه، فرصة لقلب المعادلات الدولية لحساب واشنطن، ومحاصرة موسكو وبكين، وإبعادهما عن البحر المتوسط، وبلوغ حدودهما مع الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى، بعد استتاب النفوذ العثماني الذي شكّل قلب الهجوم الأميركي، انطلاقاً من سورية. وقد منح الأميركيون للتنظيم الحاكم في أنقرة جوائز وحوافز تمثلت بتسليم أنقرة مقاليد الحكم في القاهرة وتونس، وتمكين الدوحة من التقدّم على مكانة الرياض في الخليج.
– لم تكن خسارة الحرب في سورية فشلاً لمشروع الأحادية الأميركية في إدارة العالم فقط بالفشل في السيطرة على المنطقة التي تفصل البحر المتوسط عن حدود الصين وروسيا، ولا فشلاً اقتصادياً فقط لخطط الهيمنة على منابع الطاقة وممرات أنابيبها، بل الفشل الأخطر كان في سقوط مشروع العثمانية الجديدة، الذي قدّم للمرة الأولى جواباً في الهوية لتغطية الهيمنة الأميركية على الشرق، يعادل ما مثله الاتحاد الأوروبي في الجواب على قضية الهوية لتغطية الهيمنة الأميركية على الغرب، ولم تكن مجرد مصادفة عملية التحلّل التي أصابت المجالين الحيويين للهويّات الجديدة الجامعة تحت المظلة الأميركية، في الغرب والشرق، فتزامن سقوط العثمانية الجديدة وبدء تفكك الاتحاد الأوروبي، وجرى ذلك في القلب وليس في الأطراف، لتبدأ تركيا قلب العثمانية الجديدة بالاستدارة بتوقيت خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إيذاناً بنهاية عهد الصعود الأميركي.
– التحوّلات التي تشهدها منطقة الصراع الرئيسية في آسيا شرق المتوسط، لا تتيح تحوّلاً بارداً لتركيا كحال بريطانيا. فالتغيّر يجري على صفيح ساخن ويخلق تحديات متسارعة، وما بروز مسألة الانفصال الكردي على سطح الأحداث في كلّ من العراق وسورية إلا من التداعيات الناتجة عن العبث بالدول المركزية في المنطقة الذي مارسته تركيا لحساب مشروع العثمانية الجديدة. وبفشل المشروع بقيت تداعياته هي أفضل ما أنتجه للأميركيين، فاستثمروا عليها، ليصير الأكراد أهمّ من تركيا قلب المشروع الأصلي، لكن ليصير الهمّ التركي الأول التصدّي لخطر نشوء كيان كردي على حدودها، يهدّد وحدتها، وتجد واشنطن نفسها وجهاً لوجه في تصادم مع أنقرة، حليفها الأول وقاعدتها وركيزتها الوازنة، في حروب السيطرة والهيمنة على المنطقة.
– ما يجري على الجبهة الأميركية التركية منذ سنتين، يمثل خطاً بيانياً لا رجعة فيه، لتحوّلات أكبر من قدرة واشنطن وأنقرة على تلافيها. فالتموضع المتعاكس لهما هو تعبير موضوعي عن الجغرافيا ومفاعيلها الحاكمة في السياسة، وحيث يصير حلف الناتو شيئاً من الماضي الثقيل العاجز عن الإجابة على تحديات الحاضر، فها هي كردستان التي لم تتحوّل دولة مستقلة تبدو أقرب لزعيم الناتو من عضو أصيل مؤسّس وازن هو تركيا، وها هي تركيا العضو في الناتو تجد حليفها الأقرب مع دولتين، واحدة يصنّفها الناتو كمصدر خطر أول هي روسيا، وثانية يصنفها الناتو كعدو إقليمي أول، هي إيران.
– حرب التأشيرات بين واشنطن وأنقرة هي الأولى من نوعها بين زعيم الناتو وأحد أركانه، منذ تأسيس الحلف الذي يبدو أنه من ذكريات انتهت صلاحيتها، وصارت عبئاً على أصحابها، فيما تتبلور تحالفات جديدة بحسابات جديدة، ويغيب آخر بقايا نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية، مع غياب الناتو، الذي غاب عن السمع عندما تمادت أنقرة قبل عامين في استفزاز موسكو وطلبت المؤازرة، ليظهر أنّ الحلف قد مات وينتظر مراسم دفنه.
–