الكونغرس الأميركي ضحية جديدة لترامب!
د. وفيق إبراهيم
قذف الرئيس الأميركي دونالد ترامب بـ «أزمته» مع الاتفاق النووي الإيراني إلى «الكونغرس» الذي أصبح لديه ستون يوماً لإعلان رأيه برفض الاتفاق أو الإعلان عن مواصلة القبول به.
ويعني رفض هذا الاتفاق الذي وقعته في العام 2015 الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي وألمانيا مع إيران لوقف نشاطاتها النوويّة عشرة أعوام، إغضاب الاتحاد الأوروبي الذي أعلن أنّ إيران تطبّق الاتفاق النووي بشكل صارم. كما يسيء إلى صدقية وكالة الطاقة الدولية، التي أكّدت أكثر من مرّة أنّ إيران تلتزم بالاتفاق النووي بشكل حرفي، بالإضافة إلى روسيا والصين والهند وبريطانيا التي أعلنت الموقف نفسه، علماً أنّ هذه الدول تشكّل الشرعيّة الدولية في الأمم المتحدة، ونحو 2/3 سكّان الأرض. لذلك، فالكونغرس محشور في هذه المرحلة بين خسارة حلفائه في أوروبا وتجاوز مجلس الأمن إذا رفض التجديد للاتفاق أو إغضاب رئيسه في حال وافق عليه مقتنعاً باستمراره.
وللتوضيح، فإنّ هذا الاتفاق نتاج مفاوضات دامت 13 سنة، شارك فيه مجلس الأمن مُصادِقاً عليه بعد توصّل أطرافه الدول الست وإيران إلى اتفاق لوقف النشاطات الإيرانية النووية.
ويخشى الكونغرس أيضاً من أن يشكّل رفضه للاتفاق دفعاً للعالم نحو حرب واسعة عالمية المدى، وتهلّل لها منذ الآن الدول الدّاعمة لترامب، وهي «إسرائيل» والسعودية والإمارات.
وأهمية الاتفاق تكمن في ضرورة المصادقة عليه من مجلس الأمن الدولي، إي إنّ إلغاءه يتطلّب أربع دول على الأقلّ من أطرافه الأساسيّين، مع ضرورة موافقة مجلس الأمن، ما يجعل من رفض الكونغرس للاستمرار به انسحاباً أميركياً فقط، لا يلزم مجلس الأمن وباقي الأعضاء. هذا ما نبّهت له ممثّلة الاتحاد الأوروبي موغيريني وممثّل الأمم المتحدة ووكالة الطاقة الدولية، وكلّ من فرنسا وألمانيا وبريطانيا وروسيا والصين. لذلك يبدو ترامب كثور ينطح حائطاً صلباً لا ينكسر وقد يحطّم قرنيه، وما يستطيع فعله هو إثارة حرب في «الشرق الأوسط» قابلة للاتّساع، ولا يبدو أنّ بوسعه كسبها.
وهذا ما يدفع إلى البحث عن الأسباب الحقيقية لجنون ترامب الذي انقضت من ولايته سنة كاملة، لم يتمكّن فيها من بناء إدارة متماسكة في البيت الأبيض، عاجزاً عن تنفيذ أيٍّ من وعوده الانتخابية، وساحباً بلاده من معظم التزاماتها الدولية، ما يهدّد علاقاتها مع حلفائها.
لقد سحب بلاده أولاً من اتفاقية المناخ الدولية، لأنّها تفرض على الولايات المتحدة بناء مصافٍ لتنقية دخان وقود المصانع والمعامل برغم التحذير الأوروبي، وسحب بلاده أيضاً من منظمة التجارة بذريعة مكافحة التمدّد الاقتصادي الصيني، لكنّه أصاب من حيث يدري أوروبا التي كانت تستفيد من فتح الحدود في نظام العولمة الاقتصادية، وترسل سلعها إلى القارّة الأميركية، وسحب بلاده من منظمة اليونيسكو لتراكم التزامات ماليّة عليها، زاعماً أنّ هذه المنظمة تعادي «إسرائيل»، لذلك غادرها.
ولم يتمكّن من تطبيق جزء من وعوده الانتخابية على مستوى إلغاء التأمين الصحّي المسمّى «أوباما – كير»، الذي تستفيد منه الطبقات الشعبية، على الرغم من سيطرة حزبه الجمهوري على مجلسَي الشيوخ والنوّاب، لكنّ حزبه حذّره من خسارة الطبقات الوسطى والشعبية في حال إلغاء قانون الرعاية الصحّية، متمرّداً عليه ورافضاً الإلغاء.
وخسر ترامب أيضاً تعهّده ببناء جدار على الحدود مع المكسيك، لمنع مواطنيها من التسلّل إلى الولايات المتحدة، والأسباب أنّ المكسيك لم تقبل بدفع ثمن الجدار، فسكت ترامب على مضض.
وإذا كان سيد البيت الأبيض عجز عن تحقيق هذه القضايا العاديّة، فهل بوسعه تنفيذ تهديداته ضدّ إيران؟ وهل نسي أنّ بلاده تحاول منذ 1980 إسقاط الدولة الإيرانية بدعم حرب صدام حسين عليها لمدّة عشرة أعوام، ووضعها في حالة حصار ومقاطعة لمدّة ثلاثين عاماً، ومواصلة شيطنتها وتهديدها وقطع علاقتها مع جوارها، وكانت النتيجة أنّ إيران بنت تحالفات لها من آسيا الوسطى، مروراً بالعراق واليمن وسورية ولبنان وروسيا والصين، وتمكّنت من بناء نظام صناعي وتسليحي محلّي، واحتلّت موقعاً إقليمياً نافذاً.
وإذا كانت طهران تلتزم بالاتفاق الدولي، حسب تأكيدات وقناعات الموقّعين عليه، فيتوجّب البحث عن «الدوافع الترامبيّة» المبرّرة لإلغاء الاتفاق. فنجد على الفور أنّ واشنطن كانت تأمل بالربط بين الاتفاق النووي والنفوذ السياسي، بشكل ينضبط فيه النفوذ لمصلحة الهيمنة الأميركية، وفوجئت بخسارة معظم أوراقها في سورية والعراق، من السعودية إلى تركيا وقطر واستثماراتهم في الإرهاب التكفيري، كما بوغتت بانتصار الدولة السوريّة التي توسّعت إلى حدود تحرير أكثر من 80 ألف كلم2 من سورية، إلى جانب الجيش العراقي وحشده الشعبي، اللذين حشرا الإرهاب في بؤر ضيّقة على الحدود.
ولأنّ السيطرة على الحدود السوريّة العراقية تعني بوضوح سيطرة الحلف الإيراني الروسي، فقد استشعر الأميركيّون خطراً فعلياً على «شرق أوسط» لطالما ظلّ تحت رعايتهم وحمايتهم منذ العام 1945.
لذلك ارتأت الإدارة الأميركية الجديدة، أنّ أفضل وسيلة لإجهاض انتصارات سورية والعراق وإيران وروسيا مع حزب الله، تأتي في اختيار هدف لديه أعداء كثُر، فما يجمع بين السعودية والإمارات و«إسرائيل» والولايات المتحدة، هو إيران، وتستطيع هذه الدول إعادة ضبط الاتحاد الأوروبي نحو سياساتها المعادية لطهران. فإذا كانت السوق الإيرانيّة بحاجة لتحديث كبير تسعى إليه أوروبا، فإنّ السعودية والإمارات بلدان ثريّان يستطيعان تعويض أوروبا عن خسائرها في طهران.
فتحقق واشنطن بذلك إعادة ترميم نفوذها المتصدّع، وتنجح في إيقاع الصلح العلني بين الخليج و«إسرائيل» والفلسطينيين بعين مصريّة ساهرة، الأمر الذي يجعل من النصر السوري العراقي شيكاً من دون رصيد. ويعرقل الحلف الإيراني الروسي الذي يتجرّد من أهدافه في حال العجز عن فتح الحدود السوريّة العراقية.
بموازاة هذا الجانب من تحرّك ترامب، يكشف المشروع الكردي عن مخاطرة بالسعي نحو الدولة المستقلّة في العراق، وتشجيع شخصيّات سنّية فيه على المطالبة بدولة سنّية، ودعم تمدّد الأكراد السوريّين نحو حدوده، ما ينتج كانتونات كردية متصلة ومستقلة، من أبرز مهامها بعد دور مراصد أميركية و«إسرائيلية»، تجهض مشاريع تحرير العراق وسورية، وتمنع التنسيق بينهما بشكل أو بآخر.
هذه هي الاحتمالات لحركة ترامب الجديدة التي تعبّر عن مصالح الإمبراطورية الأميركية التي تجتاز أسوأ أيامها، وهي حركة تحاول اختزال الإنجازات التي حقّقتها روسيا وإيران وأوروبا والصين وإجهاضها.
فهل هذا ممكن؟
من المعتقد أنّ الوصول إلى هذا الأمر يتطلّب حرباً واسعة لا تبقي على مستفيد، وهذا ما تتحاشاه الدول الكبرى لأنها تعرف أنّها لن تكون هذه المرّة مجرّد حرب صغيرة بين دول محليّة. لذلك يبدو الكونغرس المؤسسة التي يريد ترامب منها أن تلعب دور الضحية، وتأخذ القرار في موضوع الاتفاق الإيراني بدلاً منه… ألم تقل زعيمة الحزب الديمقراطي ييللوس إنّ ترامب لا يفعل بهذه الأساليب إلا عزل أميركا عن أصدقائها، لا عزل إيران. ولن تستطيع إنجاز أيّ جديد مع طهران يجمع بين نفوذيها النووي والسياسي، كما يطمح.
لذلك، فمن المرجّح ظهور تيارات عاقلة في الإدارة الأميركية، تلجم هذا الجنون وتحاول إبقاء الصراع على مستواه «الشرق أوسطي»، والإقرار بتراجع الدور الأميركي على قاعدة إقرار تفاهمات عميقة مع الروس والإيرانيين، القوى الجديدة في المشرق وفي العالم.