عملاء… ولو كانوا رؤساء!
العلامة الشيخ عفيف النابلسي
هل ما جرى خلال محاكمة حبيب الشرتوني وبعده مجرد انحراف مَرَضي أم هو مؤشر ثقافي وسياسي ونفسي أكثر عمقاً واتساعاً؟ لقد تحوّلت محاكمة حبيب الشرتوني إلى مرافعة للدفاع عن عميل موصوف، وإنْ حاز على رتبة رئيس للجمهورية. الرتبة لا تغيّر من الوقائع والحقيقة التي نعرفها جميعاً شيئاً. مَن عاش في تلك المرحلة، مرحلة الحرب الأهلية وانتخاب بشير الجميّل يعلم أنّ هذا الرجل تعمّد الاتصال بالصهاينة وأجرى لقاءات مطوّلة معهم واتفق وإيّاهم على خطة احتلال لبنان. الأمر ليس قصة تاريخية تُروى من وجهة نظر أخصامه، ويؤتى لها بالصور والوثائق لإثبات صحة العلاقة مع الصهاينة. عمالة بشير كانت علنية مكشوفة مرئية. الرجل مارسها بفخر واعتداد ولم يبالِ بالأغلبية الساحقة من اللبنانيين التي نقض عهد الأمان معها. عمالة بشير كانت حرباً ودماراً وفتنة موصوفة استدعت انهياراً هائلاً للعلاقات بين اللبنانيين وميلاً إلى تأجيج كلّ صراع طائفي مقيت. عمالة أرادت تغيير هوية لبنان وهدم وحدته وتقسيم جغرافيته وتمييع أخلاقه وضرب إيمانه بقضية عادلة هي قضية الشعب الفلسطيني المظلوم. عمالة ضربت الحدود الدستورية وحدود القرآن وحدود الإنجيل عرض الحائط. صار المقدّس مجموعة الأحكام والمشاعر والسياسات التي تصدر عن بشير وفريقه، حتى بات بنظر البعض إلهاً وما يفعله له إيحاء الأنبياء!
حينها وبعدها لم يُحكَم على بشير بالخيانة العظمى. لم يحاكم على علاقته بالصهاينة بل رُفّع إلى مصاف القديسين. أيّ تزوير وتحريف للتاريخ والحقائق جرى وما يزال، ليظهر بشير بطلاً مسيحياً، ثم بطلاً لبنانياً؟ نحن ما شاهدنا ولا قرأنا عن بطل يأتي بالغزاة ليحتلوا بلده! نحن ما عهدنا بطلاً يُشرف على قتل أبناء جلدته من قبل المحتلّين! نحن لا نعرف بطلاً شديد الاعتزاز والفخر بصلاته وعلاقاته مع القتلة المجرمين الذين ارتكبوا أبشع الجرائم، فيما هو يعتبر ذلك مخاضاً أليماً ضرورياً لولادة لبنان الحلم، لا بدّ
منه، على نحو ما عبّرت عنه لاحقاً كونداليسا رايس خلال المحرقة الكبرى عام 2006!
سيقول قائل: إنّ التحوّلات هي التي أوجبت على بشير التعاون مع الصهاينة، وإنّ طبيعة الحرب هي التي فرضت هذا النوع من العلاقات والممارسات، أو كما يقول سمير جعجع: «مررنا بساعة تخلّ». والحق: إنها كانت لحظات طغت فيها الأهواء والغرائز على كلّ شيء. القدرة والإمكانيات وقوة أميركا وجبروت «إسرائيل» جعلت من بشير كائناً لا يأبه لشيء ولا يعير الانتباه إلى أيّ موازين وقيم وطنية وإنسانية ودينية. كان الحلم هو أن تكون دولة على نسق الدولة الصهيونية. دولة بهوية جديدة وأنماط عيش جديدة وعلاقات تستند إلى حماية الغرب والاندماج في مشروع «إسرائيل» الواسع.
بشير كان أداة واعية في هذا المشروع. كان يعلم ماذا يريد وإلى أين يريد أن يصل بلبنان.
بناء عليه: نحن لا نواجه إشكالية في فهم المصطلح. فالكلّ يعرف مفهوم العمالة ويعرف أنّ العلاقة مع العدو «الإسرائيلي» يعاقب عليها القانون بالخيانة العظمى، لكن التشاطر والتذاكي مع كلّ انقلاب في الظروف السياسية والعسكرية هو الذي يسود. فتصبح العمالة وطنية وتصبح المقاومة إرهاباً!
المفارقة هي أنّ هؤلاء أنفسهم عندما يقرأون التاريخ الفرنسي يعتبرون أنّ الجنرال بيتان الذي تعامل مع النازيين الألمان عميلاً، وأنّ الحكم عليه بجرم الخيانة كان عادلاً، لكن تعامل بشير مع الصهاينة لم يكن إلا «فعلاً وطنياً شريفاً» لا تجوز عليه المحاكمة بل تجب عليه الصلوات والقداديس والاحتفالات التكريمية!
ستعلو الأصوات مجدّداً بأنّ بشير لم يكن عميلاً. بل كان قائداً عظيماً لحلم لم يتحقق.
لا، أيها السادة الذين خطبتم في الأشرفية ابتهاجاً وفرحاً على حكم لا يمتّ إلى العدالة بصلة. لم يكن بشير إلا عميلاً لعدوّ مغتصب متوحّش معتدٍ أثيمٍ محتلّ أرض الفلسطينيين والعرب. هذا هو التوصيف الحقيقي. العمالة مفهوم واضح وضوح الشمس، ولكن أنتم تحرّفون الكلِم عن مواضعه، وتزيّنون للناس ما يتلاءَم مع عصبياتهم وغرائزهم. لكلّ الذين اجتمعوا خلف بشير في إدانة حبيب الشرتوني، لكم أن تحبّوا بشير كيف تشاؤون وأن تطوّبوه قديساً إنْ أردتم، لكن اللغة العربية والوطنية تقول إنّه عميل!