في ذكرى وعد بلفور… لاستعادة الحقوق يعوّل على البندقية والإرادة
د. أحمد مرعي
يصادف هذا العام مرور 100 عام على صدور وعد بلفور، الوعد المشؤوم المعروف أيضاً بوعد «مَن لا يملك أعطى لمَن لا يستحق». وعد قطعه آرثر جيمس بلفور ليهود العالم عبر رسالة وجّهها إلى اللورد ليونيل وولتر دي روتشيلد، يشير فيها إلى تأييد الحكومة البريطانية إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، بناءً على مقولة مجحفة بحقّ التاريخ والإنسانيّة «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض».
في ذكرى الوعد السيّئ الذكر، حبّذا لو تغيب الذكرى بقسوتها عن ذاكرة شعبنا وذاكرة العالم، لتبقى صورة ما فعله الاستعمار والإمبرياليّة الحديثة بفلسطين والمنطقة ومناطق كثيرة من العالم تحت مظلة حقوق الإنسان والديمقراطيّة، عبر تقسيم الشعوب وتولّي أمورها وعبر الاحتلال وزرع الشقاق في نسيج المجتمعات.
كلّ هذا، والعالم يدّعي حرصه على حقّ تقرير الشعوب لمصيرها، ويدافع وقحاً عن حقوق الإنسان وتطوّره وارتقائه، وهو إنْ أراد حقيقة أن يبيّض بعضاً من صفحته السوداء أبداً، فعليه إعادة النظر في وعد قطعه مَن ليس له الحق، ولا يملك شرعيّة قانونيّة أو تاريخيّة أو إنسانيّة في قطعه.
لقد تبنّت انكلترا منذ بداية القرن الماضي سياسة إيجاد كيان يهودي سياسي على أرض فلسطين، متوهّمة أنه سيظلّ خاضعاً لنفوذها ودائراً في فلكها، ويكون في المستقبل شغل العرب الشاغل، ينهك قواهم، ويصير الهمّ الدائم والخطر المحدق.
ربطت المصالح الاستراتيجية المشتركة بين أهداف الحركة الصهيونية وأهداف الدولة البريطانية، ولعلّ واحداً من أبرز دلالات هذا الربط الاستراتيجي، هو ما ذكرته صحيفة «مانشستر غارديان» البريطانيّة عام 1916 على لسان رئيس تحريرها تشارلز سكوت: «كانت بلاد ما بين النهرين مهد الشعب اليهودي ومكان منفاه، وجاء من مصر موسى مؤسّس الدولة اليهودية، وإذا ما انتهت هذه الحرب العالمية الأولى بالقضاء على الإمبراطورية التركية في بلاد ما بين النهرين، وأدّت الحاجة إلى تأمين جبهة دفاعية في مصر، إلى تأسيس دولة يهودية في فلسطين، فسيكون القدر قد دار دورة كاملة».
وواصل سكوت مقالته كاتباً: «ليس لفلسطين في الواقع وجود قومي أو جغرافي مستقلّ إلا ما كان لها من تاريخ اليهود القديم الذي اختفى مع استقلالهم… إنها روح الماضي التي لم يستطع ألفا عام أن يدفناها والتي يمكن أن يكون لها وجود فعلي من خلال اليهود فقط، لقد كانت فلسطين هي الأرض المقدّسة للمسيحيين، أما بالنسبة لغيرهم فإنها تُعدّ تابعة لمصر أو سورية أو الجزيرة العربية، ولكنها تعدّ وطناً قائماً بذاته بالنسبة لليهود فقط».
كانت بريطانيا قلقة من هجرة يهود روسيا وأوروبا الشرقية إليها بعد الأزمات التي عانتها أوروبا الشرقيّة في ذلك الحين، فتشكّلت في العام 1902 اللجنة الملكية لهجرة الغرباء، واستُدعي تيودور هرتزل إلى لندن للإدلاء بشهادته أمامها، وقال: «لا شيء يحلّ المشكلة التي دُعِيت اللجنة لبحثها وتقديم الرأي بشأنها سوى تحويل تيار الهجرة الذي سيستمرّ بقوة من أوروبا الشرقية. إنّ يهود أوروبا الشرقية لا يستطيعون البقاء حيث هم، فأين يذهبون؟ إذا كنتم ترون أنّ بقاءهم هنا أيّ في بريطانيا غير مرغوب فيه، فلا بدّ من إيجاد مكان آخر يهاجرون إليه من دون أن تثير هجرتهم المشاكل التي تواجههم هنا».
ووقع الاختيار على فلسطين بعد نقاش طويل، لاعتبارات عدة، أهمّها القيمة الاستراتيجية لفلسطين كبقعة جغرافيّة، باعتبارها بوابة عبور إلى آسيا، كما وصفها هيرتزل، متحدّثاً عن دور الدولة اليهودية في فلسطين: «سنكون بالنسبة إلى أوروبا جزءاً من حائط يحميها من آسيا، وسنكون بمثابة حارس يقف في الطليعة ضدّ البربرية». وترفض بعض النظريّات اعتبار دعم اليهود لبريطانيا أثناء الحرب الأولى سبباً من أسباب الوعد، لأنّ الدعم اقتصر على عدد قليل من اليهود غير الناشطين في العمل الصهيوني، ويردّون سبب محاولة بريطانيا كسب تأييد يهود العالم في ذاك الحين إلى سباق مع ألمانيا على كسب ودّهم ودعمهم.
قامت بريطانيا بتحويل قوافل المهاجرين اليهود نحو فلسطين، كما بتوفير الحماية والمساعدة اللازمة. وبعد إنشاء الهيكليّة المطلوبة لقيام الدولة العبرية، لا سيّما التدريب والتسليح، وتشكيل العصابات الصهيونية التي أصبحت بعد وقت قصير بمثابة جيش كامل. أعلنت حكومة الانتداب البريطاني في 14 أيار انسحابها من فلسطين، مخلّفة وراءها جيشاً من المهاجرين اليهود، وقبل الانسحاب بثماني ساعات، أعلنت الدولة الصهيونية قيامها ضاربة عرض الحائط بالمواثيق والشرائع الدوليّة كلها، حارمة شعباً كاملاً من حقّه في الحياة وحقه في أرضه. وتولي اليوم الدولة العنصريّة «إسرائيل» وعد بلفور أهمية خاصة، وتعتبره أحد المستندات القانونية القيّمة التي تستند اليها وتستمدّ منها شرعيّتها، وقد ضمّنت «وثيقة الاستقلال» إشارة واضحة إلى هذا الوعد، نصّت على «أنّ حق اليهود في الانبعاث القومي في فلسطين» اعترف به إعلان بلفور، ولكن أنّى لبلفور هذا الحق؟ جاء وعد بلفور بعد مفاوضات استمرّت ثلاث سنوات بين الحكومة البريطانية واليهود البريطانيين والمنظمة الصهيونية العالمية، قبل أن يخرج بشكل خطاب موجّه من آرثر بلفور وزير الخارجية البريطانية يوم 2 تشرين الثاني 1917، إلى اللورد روتشيلد وهذا نصه: «يسرني جداً أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة جلالته التصريح التالي الذي ينطوي على العطف على أماني اليهود: إنّ حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل جهدها لتسهّل تحقيق هذه الغاية. على أن يفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن يضير الحقوق التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى، وسأكون ممتناً لكم لو أبلغتم هذا التصريح إلى الاتحاد الفيدرالي الصهيوني»…
والجدير بالذكر، أنّ نصّ تصريح بلفور كان قد عُرض على الرئيس الأميركي ولسون، ووافق على محتواه قبل نشره، كما وافقت عليه فرنسا وإيطاليا رسمياً سنة 1918، ثم تبعها الرئيس الأميركي ولسون رسمياً وعلنياً سنة 1919، وكذلك اليابان. وفي سنة 1920، وافق عليه مؤتمر سان ريمو الذي عقده الحلفاء لوضع الخريطة السياسية الجديدة لما بعد الحرب، وضمّنه قراره بانتداب بريطانيا نفسها على فلسطين ووافقت عليه عصبة الأمم عام 1922 وضمّن صك الانتداب البريطاني على فلسطين. من الناحية القانونية، إنّ الوجود البريطاني أثناء إعطاء الوعد هو وجود غير شرعي، على اعتبار أنّ وجود المملكة المتحدة في فلسطين هو احتلال، ومن المتفق عليه قانوناً أن الاحتلال لا يفيد بالملكية، لذلك فبريطانيا العظمى لا تملك أرض فلسطين حتى تتكرّم وتعطيها ليهود الأرض. ونحن اليوم في هذه الذكرى لا نناقش قانونية هذا الوعد، ولا نطلب من الأمم المتحدة ولا المحافل الدولية – التي أثبتت أنها لا تقدّم ولا تؤخر- أن تعيد لنا ما سلب منا، فكلّ القرارت القاضية بعودة الحق إلى أصحابه لم يتحقق منها شيء عبر الأمم المتحدّة أو الشرعيّة الدوليّة، وما زال الكيان الصهيوني غاصباً ويزداد تعنّتاً ويعيث في الأرض فساداً وخراباً يوماً بعد يوم.
في استعادة الحقوق، لا تعوّل الشعوب على أحد، وأرض الجنوب اللبناني خير مثال على ذلك، فلا القرار 425 وقوّات حفظ السلام وقرارات مجلس الأمن أعادت الجنوب إلى أبنائه، وحدها البنادق والرجال والإرادة…
دكتوراه في القانون الدولي العام، عضو مجلس الشعب السوري عن الحزب السوري القومي الاجتماعي