كلمة السرّ في كلام الحريري
ناصر قنديل
– في إطلالته التلفزيونية الأولى بعد أسبوع من الغياب ظهر رئيس الحكومة سعد الحريري بعد تقديم المحاورة له بالقول، «لا أستطيع التأكيد أو النفي حول ما إذا كنت حراً أم محتجزاً»، ليبلغنا أنه حرّ الإرادة في بيان استقالته، وبمعزل عن علامات شحوب الوجه وارتجاف الشفتين وقصر النفس واللهاث أثناء الكلام وصولاً للانفجار بالبكاء، كعلامة انهيار عصبي لشخص يقع تحت ضغوط كبيرة، يحيّي الرئيس الحريري رئيس الجمهورية على ما أسماه موقفه الدستوري بعدم قبول الاستقالة، مؤكداً أنه يعلم بأنّ عليه العودة لتقديمها في القصر الجمهوري خطياً، والحريري يعلم أنه بكلامه هذا يتنازل عن بعض من صلاحيات ومهابة رئاسة الحكومة، فليس لرئيس الجمهورية حق دستوري بعدم قبول استقالة رئيس الحكومة، وما فعله رئيس الجمهورية هو التريّث لتبيّن ما إذا كانت استقالة رئيس الحكومة بإرادته الحرّة، أم تحت الإكراه، ولا يصير التريّث بإعلان الحكومة مستقيلة من جانب رئيس الجمهورية عملاً دستورياً إلا إذا كان رئيس الحكومة محتجزاً، ويستحق الشكر والتحية لأنّ تريّثه كان الأساس في فتح باب الحرية لرئيس الحكومة، وقد ردّ الحريري على الذين دافعوا عن دستورية الاستقالة، وفي مقدمتهم حلفاء للحريري رجال دين وسياسة، باعتبارهم متواطئين مع خاطفيه.
– قال لنا رئيس الحكومة إنه أراد إحداث صدمة إيجابية عبر استقالته، ولكنه لم يقل لنا كيف، وهل يمكن أن نصدّق أنّ ما سمعناه من الحريري يمكن أن يكون مقدّمة لصدمة إيجابية، فماذا لو لم يتريّث رئيس الجمهورية واعتبر الحكومة مستقيلة ودعا لاستشارات نيابية لتسمية رئيس حكومة جديد، وتريّث المبني على فرضية احتجاز حرية رئيس الحكومة، لكانت الاستقالة بداية لصدمة سلبية لا مكان لتوقع الإيجابيات معها. ثم هل يقتنع الحريري بما قاله إنّ الهدف صدمة إيجابية، وهو غائب عن السمع لأسبوع كامل، لا يمكن محادثته ولا مقابلته، وقد استعصى على الرئيس الفرنسي اللقاء به، واستعصى على رئيسَيْ الجمهورية ومجلس النواب محادثته هاتفياً، واستعصى على كتلته النيابية أن تشاركه النقاش في حوار هاتفي أو فيديو كونفرانس في اجتماعين متتاليين، وغاب عن عادات يدمنها يومياً على وسائل التواصل الاجتماعي، كلّ شيء يقول إنه فاقد حريته ومجبر ومغيّب ومقيّد، ومكلف بأخذنا إلى كارثة، منعتها حكمة رئيسي الجمهورية والمجلس النيابي وحزب الله، ورفض الإصغاء لحلفاء الحريري بالإسراع في اعتبار الحكومة مستقيلة، لتتوافر فرص إفشال الخطة التي رسمت للاستقالة، وفتح الباب للحريري ليطلّ على اللبنانيين معلناً لهم قرب عودته، وما يعنيه ذلك من فشل خطة احتجازه بتحقيق أهدافها، وفضل اللبنانيين في تحريره وهنا يمكن الحديث عن فرصة لصدمة إيجابية فقط.
– يتمسك الحريري بمضمون كلامه بالإعلان عن سقوط التسوية التي أوصلته لرئاسة الحكومة، تلبية لطلب سعودي، لأنّ التسوية لم تُخرق ولم تسقط كما حاول أن يقنعنا، ولم نقتنع، لأننا نعرف ماهية التسوية، كتوافق على التعايش والتساكن مع التعدّد في الخيارات الإقليمية، بقيت قائمة وبقي الحريري راضياً بها حتى الاستقالة كإعلان نية خروج سعودي منها بإرغام الحريري على الاستقالة بحثاً عن تسوية جديدة، مضمونها مستحيل القبول، تقوم على أخذ لبنان إلى محور السعودية في الصراع مع إيران. وهذا يعني أنّ عودة الحريري لن تعني العودة للتسوية بل للاستقالة، والبقاء في حال تصريف الأعمال إلى حين الانتخابات النيابية المقبلة، ودخول الحريري إليها وقد شطب المستعجلين على وراثته، وقد كشف الذين طالبوا بالتسرّع في طيّ صفحته ممن كانوا حلفاءه قبل الاستقالة، واستعاد زخماً شعبياً افتقده قبل هذه المحنة، ما سيتيح له إبعاد الكثير من منافسيه عن المجلس النيابي المقبل، وكلّ هذا بفضل مواقف مَن يُفترض أنهم خصوم الحريري، وخصوم خياره الإقليمي، ولن يكون أحد منهم منزعجاً من فوزه القوي انتخابياً، ومن إبعاد المستعجلين على تصفيته سياسياً أو وراثته، والسبب بسيط، أنّ الحريري إبن هذه التسوية التي أُجبر على الخروج منها، وسيبقى تحت الضغط والإكراه ولو عاد إلى لبنان، لكن مع موعد الانتخابات سيكون قد تغيّر الكثير في المنطقة، وسيكون الحريري شريكاً في تسوية جديدة، وهذا خيار يريده شركاؤه في التسوية التي أعلنت استقالته سقوطها، لأنهم سيكونون على ضفة الرابحين إقليمياً، وستكون السعودية قد تحققت من مكانتها الجديدة في اللعبة الإقليمية، ونال الحريري مزيداً من حرية الحركة، وشطب من الساحة منافسين له هم مجرد أدوات استخبارية لا علاقة بها بالسياسة.
– عودة الحريري خصماً بربط نزاع من خارج الحكم والتسوية، بانتظار الانتخابات نتيجة مقبولة لمعركة تحريره، وهو ينكر ونتفهّم إنكاره أنه تحت الإكراه، ويشكرنا على طريقته، وهو يقول، شكراً لفخامة الرئيس عدم قبول الاستقالة، تلك كلمة سرّ المخطوف سعد الحريري، ومضمونها لا تتركوني قيد الاحتجاز بالتعامل مع استقالتي دستورياً.