ما العلاقة بين «سوتشي» وإطلاق الحريري؟
د. وفيق إبراهيم
غاب التهديد اليومي الذي كانت توجّهه السعودية إلى لبنان، محتجباً خلف صمت مريب يترقّب نتائج لقاءات إقليمية ودولية سريعة الوقع للمرة الأولى منذ اندلاع الأزمة السورية.
وبسرعة البرق اختفت تغريدات الوزير السعودي ثامر السبهان المناوئة لحزب الله وحلفائه، والتي كانت تتوعّده بالويل المقبل من السعودية وعظائم أمورها. وعاد رئيس حكومة لبنان سعد الحريري بعد احتجاز لأسبوعين في الرياض، تقدّم خلالها باستقالته متراجعاً عنها بعد رجوعه، بطلب من الرئيس عون بذريعة التريّث، وهي حجة غير دستورية تدخل في الأطر العاطفية والدعائيّة الضيّقة.
وسط هذه التراجعات السعودية السريعة، يجوز التساؤل عن أسبابها العميقة، التي حوّلت وليّ العهد محمد بن سلمان من «قاطع طريق» إلى مصاب بالخرس… وبعد استبعاد وجود أسباب داخلية في مملكة المكرمات، لأنّ واشنطن أقطعت آل سعود كلّ شيء جامد أو متحرّك في المملكة، حيث السياسة والاقتصاد والدين قيد احتكار العائلة المالكة، لذلك يتوجّب البحث في العوامل الخارجية…
كان هناك ضغط من كلّ القوى السياسية في لبنان بما فيها أنصار السعودية، بالإضافة إلى دور فرنسي وآخر مصري «كبسا» على الرياض للإفراج عن «ابنها» سعد وعائلته.
هؤلاء تمكّنوا من إحراج آل سعود، لكنّ هؤلاء لم يعدموا بدورهم حجة لدعم موقفهم، ولم يقصّروا في استعمال سياسيين لبنانيين «أكّدوا» أنّ سعد موجود برضاه في الرياض، وتقدّم باستقالته من هناك احتجاجاً على الهيمنة الإيرانية على لبنان ونفوذ حزب الله الكبير فيه.
لذلك، ما كان ممكناً أن تتمّ عودة رئيس وزراء لبنان إلى بلاده من دون «الحاجة» السعودية إليها، التي «نبتت» فجأة ولأسباب «غير مرئية».
وهذا لا ينفي أساسية الدور الضاغط الذي أدّاه الرئيس عون بمواقفه الشجاعة وصلابته على موقفه المصرّ على استعادة الحريري، في أسلوب حربي لا يتقنه إلا الشجعان.
واستفاد الفرنسيون والمصريون من إقدام عون على التصدّي لمملكة واسعة النفوذ، فضغطوا بدورهم.
عند هذا الحدّ، جرى توفير المناخ المؤاتي للحلّ، وكان يمكن للسعودية أن تواصل الاحتجاز وسط مناخ تصادمي، لكنّها فوجئت بنجاح روسيا بتكوين فريق عمل إقليمي يعمل على حلّ الأزمة السوريّة في مؤتمر سوتشي، متكوّناً من روسيا وإيران وتركيا. فتشكّل لديها انطباع أنّها أصبحت معزولة عن سورية تماماً، ومتّهمة في لبنان وعاجزة في العراق وتراوح مكانها في اليمن، بمعنى أنّها تخسر مكانتها في العالم العربي والإسلامي… أصدقاؤها متعدّدون بالأرقام فقط، لكنّهم من دون قوة. فما معنى أن تجتمع جيبوتي والصومال وجزر القمر وموريتانيا والسودان لحماية السعودية؟
وأعداؤها كما تزعم هم إيران وتركيا وقطر وسورية واليمن والعراق وحزب الله في لبنان. أمّا الموقف الأوروبي الأميركي فمساند لها كلامياً وينتقدها في معظم الأوقات، ويبتزّها دائماً.
لقد استمع آل سعود إلى السفير الروسي في لبنان يقول: «ناهيتين اثنتين» وفهموا معناهما بسرعة، وهما أولاً: يجب عودة سعد الحريري إلى لبنان بسرعة، أمّا الثانية فلا حكومة لبنانية من دون حزب الله.
وإذا كان الإعلام المحلي لم ينتبه إلى هذا التصريح، فهذا لا يعني عدم خطورته، خصوصاً أنّه تزامن مع محاولة روسيّة لفكّ الطلاسم السعودية، تجسّد بإلقاء طعم روسي جذب انتباه الرياض… وكيف لا تستغلّ السعودية الفرصة، وغريمتها تركيا تستوطن النصاب الإقليمي الروسي في سوتشي، وغريمتها الأخرى إيران في قلبه!!
ما يعني أنّ الأطراف الثلاثة يحتكرون المشهد السوري، ويحضّرون أنفسهم لمؤتمر يرعونه بحضور نحو 1500 شخصية سورية تنتمي إلى كلّ أطياف سورية السياسية والاجتماعية، فهل تستطيع الرياض الاستمرار في الفرار بتسجيل صوتي يحفظه وزير خارجيتها الجبير عن ضرورة إسقاط النظام ورحيل الأسد؟
وآل سعود يعرفون أنّ للأزمة السورية علاقتها بمجمل أزمات المنطقة والدول المجاورة، ويخشون تنسيقاً مرتقباً بين دمشق وبغداد وتداعياته عليها. فاستعانوا بـ «الصديق الروسي» لتنظيم اجتماع للهيئة العليا للمفاوضات السورية في الرياض لتشكيل وفد موحّد يحضر مؤتمر سوتشي الموسّع، طاردين منه كلّ الأعضاء السوريين الموالين لقطر وتركيا والإخوان المسلمين، فأصبح هناك ما يشبه التوازن بين دور تركيا في الحلف الثلاثي الذي يجمعها مع روسيا وإيران، مقابل نفوذ سعودي كبير في الهيئة العليا للمفاوضات، فيتحقق ما يشبه التعادل بين الأدوار السياسية لكلّ من أنقرة والرياض وطهران، كما يعتقد وليّ العهد محمد بن سلمان.
أمّا الطريف، فكان حضور مندوب عن الرئيس الروسي بوتين، مؤتمر الهيئة العليا للمفاوضات ومشاركته في التوصّل إلى وفد موحّد.
وبذلك تصبح الأزمة السورية في عناية رباعي إيراني تركي سعودي، يتفاوضون برعاية روسية شاملة لإيجاد حلّ للأزمة السورية. أما جديده، فعودة الرياض إلى سورية من «الشباك» الروسي بعد طردها من الباب السوري الإيراني التركي. ويبدو أنّ «الشباك» الروسي عريض وقابل لاستيعاب كلّ عناصر الأزمة السورية، بما فيها الفئات الدّاعمة للإرهاب.
ضمن هذا الإطار المندرج، صبّت زيارة الرئيس بشار الأسد إلى سوتشي، وبنت محادثات شديدة العمق مع الروس حول الآفاق «الدقيقة» للأزمة السورية، والمدى الذي لا يمكن تجاوزه… والروس يعرفونه، ودمشق اطمأنّت إلى حرص موسكو على سلامة الدولة السورية واستعداداتها المتحرّكة و «الثابتة»، لجهة الحركة الموازية، فهي إنتاج «هيئة عليا سعودية» من سوريين موالين للرياض، تؤمّن التوازن مع الدور التركي، ويلي ذلك المؤتمر الموسّع لآلاف السياسيين السوريين في سوتشي، على أن يعقبه لقاء روسي أميركي، قد يكون آخر الكيّ في التوصّل إلى حلّ نهائيّ للأزمة السورية على أساس مرحلة انتقالية تمتدّ إلى نهاية عهد الرئيس الأسد.
وتجري في هذه المرحلة إصلاحات دستورية وانتخابات نيابية وحكومات موسّعة تشارك فيها المعارضات المعتدلة على أساس استبعاد كلّ من له علاقة بالإرهاب.
هذه هي الاتجاهات التي وجد آل سعود أنفسهم تحت ضغوطها، فإمّا أن يواصلوا ألعابهم المجنونة والإرهابية التي أفقدتهم معظم نفوذهم في المنطقة العربية، وإمّا أن يحافظوا على قسم من قوّتهم الإقليمية بواسطة التفاهم الروسي الأميركي، وينجون بمملكتهم إزاء ما يتهدّدها من مخاطر داخلية وخارجية.
لذلك ترتبط المعلومات بين نصائح روسية وأخرى أميركية وصلت الرياض حول ضرورة إطلاق سراح الحريري، لأنّهم قد يفقدون بهذا التصرّف الغريب آخر ما تبقّى من رصيد لهم في العالم، فأطلقوه محتفظين باثنين من أبنائه على عادة السلاطين العثمانيين الذين كانوا «يربّون» أولاد ولاتهم في المناطق النائية، فيحتفظون بهم في القسطنطينية رهائن لضمان وصول أموال الجبايات إليهم.
فهل يمكن بعد ذلك القول إنّ «سوتشي» ليست بعيدة نسبياً عن أسباب إطلاق الحريري؟
وهل هناك مَن نصح وليّ العهد بإبقاء الحريري في رئاسة الحكومة لأنّ خروجه منها قد يؤدّي إلى انتهاء النفوذ السعودي في لبنان، وبالنهاية فإنّ الرياض تستلحق نفسها بالعودة إلى سوتشي، وهي تأمل من خلالها بالعودة إلى الإقليم وإيجاد حلول لأزماتها مع اليمن والعراق وسورية، بما يبعد عنها كؤوساً سياسية مرّة، خصوصاً أنّها لاحظت وجود إصرار روسي على المشاركة في نظام مرجعي متعدّد يسحب من واشنطن جزءاً من مراكز هيمنتها بالتعاون مع حلف سوري إيراني قابل للامتداد بما يهدّد فعلياً الإمبراطورية الأميركية في العالم الإسلامي و «الشرق الأوسط»، وقد لا تنجو منه مملكة رمال قابعة في قلب العصور القديمة.