تحوّل في المشهد السياسي بعد «الأزمة الحريرية»
محمد حمية
منذ أن ثَبُتَ احتجاز رئيس الحكومة سعد الحريري في الرياض وإجباره على إعلان استقالته من رئاسة الحكومة والمواقف المحلية التي ظهرت في أعقابها، حتى عودته إلى بيروت وإعلانه التريّث عن تقديم استقالته رسمياً، بدأت ترتسم ملامح تغييرات وتحوّل في المشهد السياسي الداخلي وإن لن تترجم عملياً على أرض الواقع بين ليلة وضحاها.
فالأزمة التي عصفت برئيس «التيار الأزرق» في فنادق وقصور الرياض، لم تكن عابرة وعادية، بل كانت أشدّ وقعاً على الحريري وعائلته التي كانت تلملم الجراح في بيروت وعلى جمهوره الذي شعر بالإحباط وعلى طائفته أيضاً التي استشعرت خطراً على مكانتها ودورها ومكتسباتها في النظام السياسي في لبنان.
أزمة تجاوزت خطورتها مرحلة اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005، لأن الظلم على الحريري جاء هذه المرّة من «بيت أبيه» السعودية ، وبالتالي وضعت مستقبل ومصير الحريري والعائلة و»التيار» على المحكّ وبالتالي شكّلت فرصة لـ «الدائرة الفاعلة» في بيت الوسط لإجراء إعادة تقييم للمواقف وعملية فرز بين الحلفاء والخصوم، بحسب ما قالت مصادر مستقبلية لـ «البناء»، والتي تؤكد بأن الأزمة ستترك تداعيات كبيرة على الساحة المحلية، إن على مستوى العلاقات السياسية بين القوى وإن على صعيد خريطة التحالفات في الاستحقاقات النيابية والحكومية والرئاسية المقبلة.
فما هي تداعيات أزمة إقالة الحريري على العلاقة بين القوى السياسية الرئيسية التي تشكل المشهد السياسي الداخلي؟
على الرغم من أن العلاقة الجيدة بين التيار الوطني الحر وتيار المستقبل وبين رئيس «التيار البرتقالي» جبران باسيل ومدير مكتب رئيس «التيار الأزرق» نادر الحريري تحديداً، قد بدأت قبل الانتخابات الرئاسية العام الماضي وتوطّدت بعد وصول الرئيس ميشال عون الى بعبدا والحريري الى السراي الحكومي، لكنها لم تنتقل الى جمهور الفريقين، غير أنه بعد احتضان الرئيس عون والتيار الوطني الحر الشخصي للحريري خلال الأزمة التي شكّلت الاختبار الأصعب للعلاقة بين التيارين، خطت هذه العلاقة خطوة متقدّمة على طريق العلاقة بين الجمهورين، كما أنها عمّقت الثقة المتبادلة بين عون والحريري، وثبتت أن التقارب بينهما يتجاوز ما وُصِف حينها بـ «الصفقة الرئاسية» والتحاصص الكهربائي والنفطي و «الانتخابي» و «الوظائفي» وغيرها. وبالتالي ستؤسس الى مرحلة من الثقة الشخصية والسياسية المتبادلة ستترجم بتحالفٍ أعمق وأوسع في الانتخابات النيابية المقبلة وفي حكومات العهد وحتى في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
من المؤكد أن ما تسرّب من خفايا «فضيحة الرياض» الذي أعلن الحريري أنه سيحتفظ بها لنفسه وما سبقها من استدعاءات لقيادات وشخصيات سياسية لبنانية إلى السعودية، دفنت أحلام رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع الرئاسية، بعد تورّطه في الانقلاب السعودي على الحريري، فأوساط تيار المستقبل السياسية وحتى الشعبية تتساءل: ماذا لو كان جعجع في رئاسة الجمهورية؟ كيف كان سيتصرّف إزاء الأزمة الحريرية وكيف سيتعامل مع زعيمهم؟ وهل كان سيقبل الاستقالة في اليوم نفسه ويعلن أن الحريري ليس محتجزاً وأنه قرّر الإقامة في السعودية التي يحمل جنسيتها ويدعو الى استشارات نيابية جديدة؟ هذا الهمس الممتلئ بالشكوك سيجعل «صنّاع القرار المستقبلي» يفكرون ألف مرة قبل ترشيح جعجع أو أي قواتي إلى رئاسة الجمهورية، كما أن موقف «الحكيم» أثناء اختطاف «الشيخ» لن يصلح ما كُسِر في العلاقة بين «التيارين» وجمهوريهما وما تحوّل مواقع التواصل الاجتماعي الى ساحة حرب افتراضية بين مناصري الفريقين ورسائل عتاب الخيانة والغدر من بيت الوسط باتجاه معراب إلا خير دليل، علماً أن العلاقة منذ ما قبل التسوية الرئاسية حتى الآن ساءت الى حدٍ كبير.
شظايا الأزمة المتفجّرة طاولت العلاقة بين «القوات» والتيار الوطني الحر الذي تعتبر أوساطه لـ «البناء» أن «مشاركة معراب في مؤامرة إطاحة الحريري موجهة بالدرجة الاولى الى الرئيس عون وتهدف الى إجهاض عهده في مهده، لأن إقصاء الحريري عن المشهد يعني المس بأحد أركان التسوية الرئاسية الذي كانت القوات شريكة فيها، ما يجعل التيار يعيد النظر في ورقة النيات مع «القوات» وتراجع خطوات الى الخلف في مسار ترطيب العلاقة بين الحزبين.
أما على خط العلاقة بين رئيس الحكومة ورئيس اللقاء الديموقراطي النائب وليد جنبلاط، فقد ضخّت الأزمة الدم السياسي في شرايين العلاقة بينهما بعد أن سيطر عليها الجمود في الآونة الأخيرة، فقد أظهر جنبلاط تعاطفاً مع الحريري وبذل جهوداً في تأمين حاضنة وطنية لاستعادته من الرياض، كما تمكّن جنبلاط من إجهاض محاولات استدراجه الى مؤامرة إقصاء الحريري ومخطط تهديد الاستقرار الداخلي.
شكّل الاحتضان السياسي الذي أظهره حزب الله وجمهور المقاومة للحريري وعائلته نقطة مضيئة في مسار العلاقة بين المستقبل وحزب الله، وإن لم تخرج رسائل الامتنان والتقدير التي نقلت من بيت الوسط باتجاه حارة حريك الى العلن لضرورات المرحلة الانتقالية التي تفرض على الحريري أن يمرّرها بأقل الأثمان السياسية والشخصية.
الأمر الأكثر أهمية هو انعكاس الأزمة المستجدّة على البيئات الشعبية للتيارين الأزرق والأصفر، وهو ما عجزت عنه جلسات ماراتونية بينهما في جولات حوار عين التينة الذي كان عنوانه الرئيس تخفيف الاحتقان المذهبي. فمن كان يتوقع انتشار صور ولافتات الحريري على امتداد طريق المطار وفي أكثر من منطقة محسوبة على البيئة الشيعية في بيروت والبقاع وحتى الجنوب والضاحية؟
ليالي الرياض السوداء جعلت حزب الله أكثر قناعة تجاه نظرية رئيس المجلس النيابي نبيه بري بأن لا بديل عن الحريري الذي شكّل الاعتدال السني في لبنان. الأمر الذي ربما يدفع الثنائي الشيعي الى التحالف الموضعي العلني والباطني مع المستقبل ورفده بالأصوات الشيعية المُرجِّحة في أكثر من دائرة انتخابية يخشى خسارتها أمام خصومه.
وتحدّثت مصادر مستقبلية لـ «البناء» عن «حوارات تجري في الغرف المغلقة بين حزب الله والمستقبل حول المرحلة المقبلة وكيفية الخروج من الأزمة، كاشفة عن تقدّم في الاتفاق على المواضيع الخلافية بين الطرفين، لا سيما حول تفسير النأي بالنفس والعلاقات مع الدول العربية»، بينما لفتت أوساط مطلعة لـ «البناء» أن «حزب الله يعمل بجهد وقدر الإمكان لطمأنة الحريري وملاقاته في منتصف الطريق للتمهيد لعودته عن استقالته وإعادة الحياة الى المؤسسات الدستورية لا سيما مجلس الوزراء».
من المؤكد أن الحريري ليس بوارد الاقتراب أكثر من خيارات حزب الله السياسية لا سيما قبل الانتخابات النيابية لأسباب عدة أولاً لأن مقتضيات اللعبة الانتخابية تفرض عليه الحفاظ على مستوى معين من الخطاب السياسي لمواجهة مزايدات خصومه في البيت المستقبلي والآذاري، وثانياً لامتصاص غضب القيادة السعودية التي ستراقب مواقفه وأداءه السياسي بدقة متناهية، إذ لا يحتمل الحريري خضّات سياسية جديدة أو إغضاب المملكة على مسافة أشهر من الانتخابات النيابية، ما يجعل الحريري يسير حتى موعد الانتخابات في حقل مليء بالألغام السياسية. فضلاً عن أن الحريري لن يجاري خيارات حزب الله تجاه إيران وسورية قبل جلاء المشهد الإقليمي لا سيما على ضفتي الخليج طهران والرياض، لكن من المؤكد بحسب مطلعين بأن ما بعد الانتخابات النيابية لن تكون كما قبلها، فالحريري سيخرج أشدّ قوة وثباتاً وثقة متسلحاً بكتلة نيابية وازنة وباحتضان شعبي ووطني رسمي يعيده الى السراي من بابها الواسع ومتحصّناً بدعم وزخم دولي وإقليمي يجعله محطّ إجماع دولي ربط بقاءه في السلطة بالاستقرار في لبنان.