بعد التأجيل لماذا تحرّكت قضية «القدس» بهذا التوقيت؟
روزانا رمّال
منذ أشهر من الآن كان الرئيس الأميركي دونالد ترامب يعتزم إعلان القدس عاصمة أبدية لـ «إسرائيل»، وتراجع عن ذلك في محاولة لتأجيل تنفيذ هذا العهد الانتخابي الذي قدّمه لـ «الإسرائيليين»، واعداً إياهم بحفظ وجودهم وتكريسه، في ذلك الوقت تراجع البيت الأبيض عن تنفيذ تلك الرغبة، لأن الانتفاضة الفلسطينية كادت تقع في الأقصى ولأن التطورات في الأرض المحتلة لم تكن تبشّر بالخير فتدخّلت أطراف عديدة من بينها نتنياهو، حسبما سرّب «لتأجيل هذا الإعلان فقد جرى لقاء بين ترامب ونتنياهو ناقش مسألة نقل السفارة الأميركية للقدس، فنصح مسؤولين «إسرائيليون» نتنتياهو بالتروي، لأن ذلك سيتكفل بإشعال الشارع الفلسطيني الذي كان محتقناً فكان ذلك.
بالواقع، كان هناك أمل أكبر في تحقيق تقدّم وازن لجهة إمكانية هزيمة محور روسيا – إيران سورية – حزب الله فبعض الأوراق كانت متوفرة ويمكن الرهان عليها، خصوصاً في معارك العراق وإمكانية النجاح في إعلان استقلال دولة كردستان التي تعتبر مشروعاً «إسرائيلياً» مباشراً يستهدف إيران عبر إنشاء قاعدة عسكرية تعزّز عبرها تل أبيب أمنها الحيوي في المنطقة وتضيّق الخناق على إيران وحلفائها أكثر من أي وقت مضى.
الأكيد أن كل الأطراف، وبهذا التوقيت تحديداً، تحتاج لخطوة من هذا النوع، كإعلان ترامب في هذا الوقت «القدس» عاصمة لـ«إسرائيل»، خصوصاً السعودية و«إسرائيل» اللتين تحتاجان لهذا الإعلان كنوع من إثارة الضجيج والتغطية على الفشل كله الذي لحق باليمن وحلم الدولة الكردية وفي سورية وفي لبنان أيضاً، بعد فشل مؤامرة استقالة الحريري وما تبقى اليوم من هذا الركام الذي يُحيط من كل جانب بهذه الأطراف، فصارت الحاجة ضرورية الى حدث مدوٍّ يمكنه من إزاحة العين فوراً عن كل هذا الإخفاق. فبعد أيّام لم تبلغ الثلاثة على مقتل الرئيس اليمني علي عبدالله صالح على يد الحوثيين بعد انعطافته وانضمامه للتحالف العربي بقيادة السعودية وبعد كل ما أرخاه من ضجيج وانتصار احتسب لصالح خصوم السعودية برزت محاولات تعمية العيون هذه عن الانتكاسة السعودية الكبرى وفشل مخططات ثلاثة بأقل من شهر في العراق ولبنان واليمن فما كان إلا المسارعة بالطلب الى الرئيس الأميركي المساعدة على إثارة وتحريك ملف القدس الذي كانت قد سبقته محاولات للتغطية من نوع تفجيرات في مصر وسورية «حمص» وغارات «إسرائيلية» على سورية، لكنها جميعها لم تخفِ هذا السقوط السعودي وسوء التقدير.
نعم، وبكل تأكيد، فإن إزاحة العين عبر رفع ملف تهويد القدس الى الأعلى كآخر الأوراق هو اختيار ذكي ومناسب، لكن الحذر يشوب الخطوة الأميركية «الإسرائيلية» خصوصاً عند التداول بأن نقل السفارة الأميركية الى القدس يحتاج وقتاً وربما سنين لإيجاد أرض مناسبة يمكن بناء صرح السفارة الأميركية عليها، وأن هذا يحتاج الى الوقت، وهذا يعتبر سيفاً ذا حدين من شأنه ترويض الفلسطينيين وإشغالهم بفكرة الإعلان الشفهي مع تأخر التطبيق لأسباب لوجستية فيأتي القرار مخففاً، ولا يشكل خطرا على الأمن «الإسرائيلي» الموعود بانتفاضة ثالثة يتكفل نقل السفارة بإشعالهاً.
الأساس فقط هو تغطية الفشل الذي مُنيت به «إسرائيل» مع حلفائها العرب. والمعروف أن أي خطوة أو قرار أميركي من هذا النوع يستحيل أن يجري من دون الحصول على ضوء أخضر عربي. وبالعودة الى المواقف التي اطلقتها الدول العربية المعنية بمنع هذا المخطط كما هو «مفترض»، فإن موقف المملكة العربية السعودية المريب الذي يفتقد كلمات الحزم والجزم مثل «سنمنع» و«سنقف بوجه» و«لن نقبل بأي شكل» مفقودة من كلام الملك سلمان وولي عهده ابنه الشاب الذي ساهم بانتكاسة مواقف السعودية وموقعها ومكانتها بأسرع مما كان متوقعاً.
يقول البيت الأبيض مساء أمس، إن ترامب أجرى سلسلة من الاتصالات، ليبلغ عدداً من قادة المنطقة العربية بقراره نقل السفارة الأميركية إلى القدس. وهذا يؤكد أن أحداً لم ولن يستغرب الفكرة. ونتيجة لذلك وبدلاً من الاجتماع الطارئ لممثلي الدول العربية وإطلاق مواقف اعتراضية وتنظيم تظاهرات برعاية رسمية، يتمّ الإعلان عن اجتماع بعد ثلاثة ايام من الاعلان الأميركي وكأن القضية تنتظر التأجيل وطبعاً لا دعوات رسمية حكومية للانتفاضة في الشوارع وتسيير مسيرات سلمية من أجل رفع الصوت أمام العالم رفضاً للخطوة الأميركية.
مدينة السماء تعلن يهودية أميركياً. وهو إعلان يشكل خطراً كبيراً، لأنه قادر على تشكيل ارضية تشجع دولاً أخرى حليفة لواشنطن على أن تحذو حذوها، أكانت أوروبية و/أو غربية أو غيرها، ممن تجد أن الحقوق الفلسطينية أصلاً ليست موجودة على الجدول السياسي والدبلوماسي.
الغضب الفلسطيني الشعبي أكيد، وأيام «الجمعة» ستعد بالكثير، لأن أحداً لا يمكنه ضبط الأمور أو ضبط انفعال الشارع. وإذا كان هذا ما تريده واشنطن وما تتحضر له «إسرائيل»، فإن السؤال عن سبب المخاطرة بالوضع الأمني داخل الكيان واعتراضات «إسرائيلية» تحيط بالملف بين اعتراضات أمنية وسياسية وإعلامية تحذر من الارتدادت، واصفة القرار بالتهور الكامل القادر على إشعال الوضع من دون أي مبرر، وإذا كان الموضوع يتعلق بالضغط على السلطة الفلسطينية لتقديم تنازلات في التفاوض، فإن هذا يعني نسفها بالكامل بعد أن صار أي تنازل بعد هذا القرار خنوعاً فلسطينياً.