الخليج متورّط
د. وفيق إبراهيم
هل تصبح بلدة أبو ديس المجاورة للقدس المحتلة عاصمة دويلة فلسطينية تضمّ نصف الصفة الغربية وقطاع غزة، منزوعة السلاح، وترتبط بـ»إسرائيل» عسكرياً ودبلوماسياً واقتصادياً؟
سؤال منطقي في ضوء عاملين: إعلان الرئيس الأميركي ترامب اعتراف بلاده بالقدس الموحّدة عاصمة دائمة وأبدية لدولة «إسرائيل»، وكشف أبي مازن وأعضاء آخرين من منظمة التحرير أنّ وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان أخبرهم في اتصال هاتفي منذ أسبوع أنّ بلدة أبو ديس هي عاصمة الدويلة الفلسطينية المنتظرة، وإذا ما تمّ ربط حركات الرئيس المصري السيسي التي تصرّ على نزع سلاح المقاومة في قطاع غزة بإعلانَي ترامب ووليّ العهد، لتبيّن على الفور أنّ هناك مشروعاً أميركياً خليجياً – أردنياً مصرياً لإنهاء القضية الفلسطينية التاريخية، واستبدالها بكانتون فلسطيني ملحق بالكيان «الإسرائيلي» مقابل القدس عاصمة لـ«إسرائيل»، وإلغاء حق العودة لفلسطينيي الشتات وتوزيعهم على العالمَيْن العربي والإسلامي بأموال خليجية.
أمّا في الناتج السياسي لهذه الخطة، فتبدأ من وضع النفوذ السعودي النفطي والديني، وبالتالي السياسي، في خدمة تمدّد «إسرائيلي» يتسربل بالنفوذ السعودي، مقتحماً العالمين العربي والإسلامي سياسياً واقتصادياً.
هذا الجزء يتعلّق بالحركة العربية «الإسرائيلية» التي تبقى رغم وعد بلفور الترامبي، مكبّلة بالمحور اللبناني السوري العراقي اليمني الرافض لهذا الانحطاط والعامل على مجابهته بمختلف الأشكال العسكرية والسياسية، وإلا كيف نفهم دور حزب الله في لبنان ومنظومة الجيش السوري وتحالفاته في سورية، والحشد الشعبي المتحالف مع الجيش في العراق، وأنصار الله وتحالفاتهم في اليمن، الذين أبادوا قبل أيام عدة مشروع تآمر داخلي مستنداً على خطة غزو سعودية إماراتية بتغطية أميركية؟!
وكيف نفهم أيضاً رعاية الرئيس السيسي لمصالحة منظّمتي فتح وحماس على قاعدة إعادة تسليم قطاع غزة للسلطة الفلسطينية، ويتبيّن أن السيسي مصرّ على نزع سلاح حماس قبل المصالحة، فيتّضح عمق التآمر بالاتصالات «الإسرائيلية» السعودية العميقة التي تكاد تصل خواتيمها في الاتفاق سياسياً، والمترافقة مع تطبيع بحريني وإماراتي علني مع وفود «إسرائيلية» متنوّعة تزورهما دائماً، وتدلي بتصريحات علنية.
أمّا الأكثر فجوراً، فما انكشف عن إملاءات أبلغها محمد بن سلمان لرئيس السلطة محمود عباس، وتتعلّق بضرورة القبول بحركة الاستيطان «الإسرائيلية» المتصاعدة في قلب الضفة الغربية التي أدركت نحو 25 في المئة منها. أمّا التعويض عنها، فموجود في صحراء النقب أو جزيرة سيناء المصرية، باعتبار أنّ معلومات أميركية جزمت بأنّ الرئيس السابق حسني مبارك كان موافقاً على اقتطاع قسم من سيناء يجري ربطه بقطاع غزة مقابل «إسرائيلية» القدس ونصف الضفة الغربية، فهل بوسع السيسي رفض ما سبق لمبارك أن قبل به؟
يمكن أن يُضاف إلى ذلك عمق العلاقة الثلاثية بين ترامب، السيسي وابن سلمان. فالرئيس المصري محتاج إلى الدعم السياسي الأميركي والدعم الاقتصادي والديني السعودي والخليجي، وهذا يلجم بعض التيارات المحابية للإرهاب في الأزهر الشريف، وهي تيارات وهابية لها مراجعها في مملكة أبناء سعود، ويؤمّن لواشنطن تغطية من أكبر بلد عربي، موفّراً في الوقت ذاته للسعودية دعم القاهرة الفعلي لا اللفظي.
وكانت واشنطن تأمل إطلاق اعترافها بالقدس بعد تفجير لبنان بواسطة الاستقالة الملغومة للرئيس الحريري، وعرقلة وصول الجيشين العراقي والسوري إلى حدوديهما المشتركة، وإثارة حروب ومشاحنات في العراق عبر حركة البرزاني الانفصالية والدعوة إلى انتخابات الهدف منها تفجير تحالفات الصف الواحد. كما حاولوا عبر الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح تفجير اليمن، وخسر صالح حياته ومشروعه السياسي…
أمام هذه الانكسارات، ارتأى الحلف الأميركي الخليجي «الإسرائيلي» ومعهم السيسي الإسراع في الإعلان عن محورهم وأهدافه بإسقاط القضية الفلسطينية وسحبها من التداول، وبالاستمرار في لعبة استهداف إيران وشيطنتها ووضعها في خانة العدو القومي للعرب، ورفع سعار الفتنة السنية الشيعية لمواصلة إضعاف العالم الإسلامي ومنع روسيا والصين من التجذّر في وهاده.
ويبدو أنّ ترامب متأكّد من أنّ ردود الفعل العربية والإسلامية على اعترافه بالقدس عاصمة لـ «إسرائيل» لن تتعدّى بضع تظاهرات تتلاشى وتذبل كانكسار الضوء في البعيد… هذا ما قيل له.
بأيّ حال، لا يأبه أحمق البيت الأبيض بهذه التداعيات، لأنّ اعترافه بـ «إسرائيلية» القدس يعكس موقف الطبقة العليا الأميركية التي ابتدأت تجهر بصهيونيّتها منذ عهد الرئيس الأميركي السابق الممثل الثانوي رونالد ريغان. هذه الطبقة أصبحت تُعرَف آنفاً بِاسم المحافظين الجدد الذين تراجعوا بعض الشيء في مرحلة أوباما مقابل الانتعاش الذي مرّوا به في مرحلة بوش الابن الأحمق الأول.
اليوم، يجدّد المحافظون الجدد دورهم السياسي الأصلي في السياسة الأميركية عبر الرئيس ترامب. وهو دور أميركي يرى في «إسرائيل» الهراوة الأميركية الأولى في «الشرق الأوسط» التي تجذب مناطق خاضعة للاستهلاك الأميركي إمّا بالتحالف أو بالصدم العسكري.
فالعرب مثلاً سقطوا في السلّة الأميركية منذ 1979، لأنّ السادات اكتشف أنّ «أميركا تملك 99 من أوراق الأزمة»، على حدّ تعبيره الحرفي، فذهب إليها متقوقعاً داخل عباءتها، وهذا يتعلّق بنظام الرعب والخوف، وكذلك السعودية والإمارات وقطر والمغرب… والسلطة الفلسطينية والأردن، الذين وقعوا في الفخ الأميركي لاعتبارات الدفاع عن أنظمتها.
وحدها إيران وتحالفاتها في المنطقة حاربت منطق الخوف والاستفراد والفتنة السنّية الشيعية، ويواصلون مع الفلسطينيين مجابهة «صفقة العصر» التي تهدف إلى إنهاء قضية فلسطين.
لذلك بدأت المنطقة بمرحلة تعميق انقساماتها بما قد يصيب الأميركيين بدهشة ومباغتات، سببها أنّ الكثير من الدول الإسلامية المتحالفة مع واشنطن لن تستطيع مواصلة تحالفاتها الأميركية والخليجية لأسباب تتعلّق بفلسطين، حتى لو بدا الأمر كانتهازية سياسية، كما يفعل الرئيس التركي أردوغان. وهذا الآخر على الرغم من براغماتيّته، فهو جزء من الإخوان المسلمين الذين لا يرضون ببيع المسجد الأقصى ثاني الحرمين الشريفين مهما توغّلوا في انحرافات سياسية. وهناك عشرات الدول الإسلامية الأخرى التي لن تنجرّ في فلك الفتنة الأميركية الخليجية على حساب فلسطين.
لذلك، فإنّ الإقليم يغلي على قاعدة إحياء عشرات الانتفاضات في فلسطين، وأكثر من بلد عربي وإسلامي أصبحوا يعتبرون الصراع في وجه الأميركيين والخليجيين واجب مقدّس لاسترداد فلسطين وعاصمتها القدس من البحر إلى النهر، لا كما يريد ترامب وغلامه محمد بن سلمان.