«السيّد» يخنق صفقة العصر الكبرى
د. وفيق إبراهيم
هذه «الصفقة» ليست عملاً صبيانياً أرعن، كما يصفها بعض المحللين والسياسيين، بقدر ما تعكس ترجمة دقيقة لانهيار عربي وإسلامي صنعه تدريجياً تحالف ثنائي بين «إسرائيل» والسعودية وحلفائها في فلسطين والإقليم، برعاية أميركية كاملة، لذلك تريد الصفقة إنهاء القضية الفلسطينية لتمديد الاستقرار السياسي والاقتصادي للنفوذ الأميركي في العالم الإسلامي لقرن جديد، وربما أكثر.
الربط هنا بين جملة أحداث متتابعة مسألة ضرورية لاستخلاص الدور الكبير الذي يؤدّيه محور المقاومة في صناعة التاريخ الجديد للمنطقة. فالشعوب العربية والإسلامية اندفعت إلى «الشارع» للتعبير عن غضبها في تظاهرات بطولية تكشف الخلاف الكبير بين توجّهات الأنظمة العربية والإسلامية وبين طموحات مواطنيها المصرّة على تحرير فلسطين ومحاربة الإرهاب.
ولا تزال انتفاضة العرب والفلسطينيين والمسلمين تزلزل الأرض وتُخيف الحكومات. لكنّ السؤال هو عن مدى قدرتها على الاستمرار في استيطان الشارع وإيقاف الأعمال والحياة الاقتصادية التي تأخذ منها معاشَها وأودَها.
هذا ما تراهن عليه الدوائر الأميركية و«الإسرائيلية» والخليجية، ويظهر في وسائل إعلامها التي تتجاهل ما يجري أو تذكره بطريقة موجزة، وكأنّه جملة أحداث عارضة تنتمي إلى فئة الغضب المقرون بأعمال شغب.
هناك مؤشرات، لكنّها إيجابية هذه المرة، أوروبا بكاملها والصين وروسيا والهند والعالم الإسلامي غير العربي، رفضوا «صفقة العصر الكبرى» أكثر من دول الخليج، واعتبروا أنّ القدس الشرقية هي عاصمة فلسطين مقابل موقف إسلامي إيراني لديه دول وشعوب عربيّة مؤيّدة يعتبر القدس بشطريها عاصمة لفلسطين المحتلة. أمّا أهمية هذا الصراع فتتعلّق بتحديد المحور الذي يسبق الآخر في معركة الوقت، وتحديد المشروع وبناء مكوّناته ومراحلها.
ومقابل العجز الأميركي والعربي الرسمي عن ضبط حركة الشارع الثائر، تبدو آليات واشنطن العربية الإسلامية منتهية الصلاحية، فالفتنة السنيّة الشيعيّة تضمحلّ، والإرهاب المدعوم منهم يلفظ أنفاسه الأخيرة، والأنظمة العربية «المعنيّة» محاصرة بالمدّ الشعبي، وقد تتبنّى أسلوباً خطابياً ثائراً على طريقة أردوغان، الذي يحاول استغلال المناسبة لإعادة «تذخير» مشاريعه في الاتحاد الأوروبي وسورية والعراق على جثث الكرد والمعارضة التركية وأحلام الفلسطينيين بتحرير بلادهم فعلاً، لا على متن لغة أردوغانية تقول عكس ما تفعل.
ضمن هذه الأجواء، ظهر «المقاوم الفعلي» عاكساً طموحات الفلسطينيين والعرب المسلمين والمسيحيين معاً، ومستفيداً من النجاحات التي أنجزها مجاهدوه في دحر الإرهاب في سورية والعراق ولبنان، وتصفيته للمشروع الوهابي التكفيري الذي تبنّته واشنطن في العقدين الأخيرين لتفتيت المنطقة العربية.
ولأنّ الحاجات الجماهيرية الاستراتيجية تحتاج إلى أبطال معتمَدين وتاريخيين وموثوقين لتحويلها مشاريع مستمرّة لا تكتفي ببلاغة الخطباء وترفض استعمالها لمجرّد الاستثمار على طريقة أردوغان والحكّام العرب، فكان طبيعياً أن يكون السيد حسن نصر الله هو «التاريخي» الملائم لتحويل الحاجات مشروعاً دائماً، بخلفية إسلامية حقيقية لا تفرّق بين مذهب وعرق وقومية ودين، فالقدس فلسطينية وجزء من بلاد الشام، وعربية وإسلامية ومسيحية في آن معاً.
ما هي ملامح مشروع حلف المقاومة المنتصر على الإرهاب؟ وما هي نتائجه الأولى؟
يسعى حلف «السيّد» إلى توسيع حلف المقاومة بشكل يشمل تنظيمات المقاومة كلّها على المستويين العربي والإسلامي، مع التركيز على القوى الفلسطينية داخل الأراضي المحتلة وخارجها. والأهداف واضحة بقدر المشاريع الأميركية الخليجية، وهي الدفاع عن المنطقة وانتزاع حقوق الفلسطينيين المهدورة بين الدور الأميركي الاستعماري والاحتلال «الإسرائيلي» والتواطؤ الخليجي المتقاطع مع دول عربية. ما يحتّم أن يكون الردّ على مستوى الهجمة، وهذا يتطلّب محاولة تجميع القوى الفلسطينية وإلغاء خلافاتها، خصوصاً بين حركة حماس ومنظمة فتح، حتى أنّ الوساطات تذهب نحو إعطاء «فتح» هامش حركة خاص بها يعبّر عن طموحات الشعب الفلسطيني على قاعدة ترك السلطة الفلسطينية تؤدّي دوراً سياسياً يمنع حكّام الخليج من تحويل بلدانهم إلى «إسرائيليات علنية».
ولأنّ لكلّ مشروع تحرّر وطني سياسي عسكري حاجاته من التمويل، فالحوار الإيراني الفلسطيني أوجد حلولاً لهذه المسألة الحيوية، والتي لا تقلّ أهمية عن الاستنفار الجماهيري.
قد تبدو هذه الخطة عادية، لكن المتمعّن فيها يقرأ مسعىً لتحويل الغضب العربي بسبب اعتراف واشنطن بالقدس عاصمة لـ «إسرائيل» ونقل سفارتها إليها، لتحويله «منظمة دائمة» لها أبعاد ثلاثة فلسطينية وعربية وإسلامية، وأهدافها جليّة لا يرقى إليها الشكّ: القدس عاصمة فلسطين فقط، وللمسلمين والمسيحيين، وبذلك يتأمّن مشروع استعادة أربعة أنواع من الحقوق: الفلسطيني والعربي والإسلامي المسيحي، وإلا كيف نفسّر مواقف الرئيس اللبناني ميشال عون من هذا الموضوع بالذات؟! وانتفاضة وزير خارجيته جبران باسيل الذي فضح في المؤتمر الأخير للجامعة العربية تخاذل الدول العربية في موقف شجاع ونادر لم يتجرّأ عليه وزير عربي آخر في هذا العصر الأميركي الخليجي «الإسرائيلي».
وكيف نفسّر موقف الاتحاد الأوروبي الرافض لـ «إسرائيلية» القدس والمصرّ على مسيحيّتها، إلا في إطار منافسة الاحتكار الأميركي لـ «الشرق الأوسط» والعالم الإسلامي، وإرضاء الفاتيكان غير المساوم على مدينة السيد المسيح.
أمّا النتائج الأولى «للمشروع السيد» لحلف المقاومة فهو حصر «صفقة العصر الكبرى» في زاوية ضيقة تنتظر مَن يسدّد لها الضربة القاتلة… هذه الصفقة التي أصبح تسويقها في العالم بأسره صعباً، وتمريرها من قِبل السلطة الفلسطينية مستحيلاً، وإعلان التأييد العلني والجهوري لها من قِبل دول الخليج كارثياً عليها ووبالاً على أنظمتها وعائلاتها الحاكمة، لذلك نشهد الكثير من التراجعات للحفاظ على الرؤوس… الفارغة.
والمهم أنّ «صفقة العصر» في موقف شديد التأزيم، وهذا لا يعني تراجعاً أميركياً عنها، بقدر ما يؤشّر إلى محاولات استيعاب الغضب العربي الشعبي، وذلك بتأكيد الموقف الأميركي المؤيد للقدس عاصمة «إسرائيل»، مقابل إرجاء نقل السفارة الأميركية إليها مدة إضافية، وهذه محاولة مكشوفة، لكنّها الوسيلة الوحيدة لمحاولة امتصاص نقمة المسلمين.
فهل تنجح؟ الردّ موجود عند الذي بدأ بخنق صفقة العصر الكبرى، وهو الحلف المقاوم الذي يواصل هصر الصفقة لإخراج الحياة منها، وصولاً إلى آليات مقاومة تستند إلى مشروع وحيد قاعدته تحرير فلسطين وخنق النفوذ الأميركي في العالمين العربي والإسلامي.