العدوان الأميركي الصهيوني.. والعجز العربي!

د. محمد سيد أحمد

لم يكن العدوان الأميركي الصهيوني على القدس يوم الأربعاء الماضي، عبر إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب بنقل سفارة بلاده الى القدس، واعتبارها عاصمة لكيان العدو الصهيوني، هو العدوان الأول الذي استهدف فلسطين العربية، فمنذ مئة عام بالتمام والكمال 1917 كانت هذه الأرض العربية المنكوبة موعودة بالمنح للعدو الصهيوني، من خلال العدو البريطاني الذي كان يحتلّ جزءاً كبيراً من عالمنا العربي، ومنه فلسطين، حيث أرسل آرثر جيمس بلفور وزير خارجية بريطانيا في حكومة ديفيد لويد جورج في ذلك الوقت رسالة الى اللورد ليونيل وولتر دي روتشيلد أحد أهمّ الأثرياء اليهود البريطانيين يشير فيها إلى تأييد الحكومة البريطانية إنشاء «وطن قومي لليهود في فلسطين».

وللحقيقة لم يكن روتشيلد مقتنعاً بمسألة الوطن القومي لليهود عند بدايتها على يد هرتزل، ولكنَّ أمرين حدثا غيّرا من توجّه آل روتشيلد…

أولاً: هجرة مجموعات كبيرة من اليهود الى أوروبا، ورفضت الاندماج في مجتمعاتها الجديدة، وهو ما أدّى إلى بروز بعض المشكلات تجاه اليهود، بل وبين اليهود أنفسهم، فكان لا بدّ من حلّ لدفع هذه المجموعات اليهودية بعيداً عن مناطق المصالح الاستثمارية لآل روتشيلد.

ثانياً: ظهور التقرير النهائي لمؤتمرات الدول الاستعمارية الكبرى في عام 1907، والمعروف باسم تقرير «بازمان». وهو رئيس وزراء بريطانيا حينئذ، والذي يقرّر أنّ منطقة شمال أفريقيا وشرق البحر المتوسط هي الوريث المحتمل للحضارة الغربية الحديثة، لكن هذه المنطقة تتّسم بالعداء للحضارة الغربية، لذلك يجب العمل على تقسيمها، وعدم نقل التكنولوجيا الحديثة إليها، وإثارة العداوة بين طوائفها، وزرع جسم غريب عنها يفصل بين شرق البحر المتوسط والشمال الأفريقي. ومن هذا البند الأخير، ظهرت فائدة إقامة دولة يهودية في فلسطين. وهو الأمر الذي استثمره دعاة الصهيونية، وعلى ذلك تبنى آل روتشيلد هذا الأمر، حيث وجدوا فيه حلاً مثالياً لمشاكل يهود أوروبا.

وفي ما يتعلق بنص رسالة وزارة الخارجية البريطانية لروتشيلد فقد جاءت على النحو التالي: «عزيزي اللورد روتشيلد يسرني أن أبلغكم أنّ حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف الى إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين وستبذل قصارى جهدها لتحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتّع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر». وبذلك جاء الوعد عبارة عن عدوان صريح وواضح ضدّ فلسطين، حيث وعد مَن لا يملك لمَن لا يستحق، وكان العدو الأميركي شريكاً مع بريطانيا، حيث قامت الحكومة البريطانية بعرض نص تصريح بلفور على الرئيس الأميركي ولسون، ووافق على محتواه قبل نشره.

وكان العدوان الأول في ظلّ عجز عربي واضح، حيث كان العالم العربي مقسّماً بين القوى الاستعمارية الكبري في العالم في ذلك الوقت بريطانيا فرنسا ، لذلك عندما أعلنت بريطانيا إنهاء انتدابها على فلسطين في عام 1948 وغادرت قواتها، أصدرت الأمم المتحدة قراراً بتقسيم فلسطين لدولتين يهودية وعربية. وكان بالطبع عدواناً جديداً على الأرض الفلسطينية والشعب الفلسطيني. وهنا عارضت الدول العربية التي كانت لا تزال محتلة القرار وجهّزت نفسها لدخول الحرب لطرد العصابات الصهيونية المسلحة من الأرض الفلسطينية المغتصبة. وكانت النتيجة هزيمة ساحقة للجيوش العربية بعد خيانات عربية من قبل بعض الأنظمة الرجعية في ذلك الوقت. وهو ما يعني قمة العجز العربي.

وبعد النكبة بدأت الدول العربية المحتلة في الحصول على استقلالها تباعاً، وفي تلك الأثناء برز اسم الزعيم جمال عبد الناصر ذلك القائد الذي شارك في حرب فلسطين واستقرّ في وجدانه أنّ العدو الصهيوني هو عدونا الأول، لذلك جعل قضية فلسطين هي القضية المركزية لمشروعه القومي، وبدأ في السعي لتوحيد الصف العربي والاستعداد لمواجهة العدو الصهيوني، لكن وللأسف الشديد تلقّى طعنات غادرة من الرجعية العربية مما أدّى الى حدوث نكسة 1967 واكتسب العدو الصهيوني أرضاً جديدة ليس فقط في فلسطين، بل في مصر وسورية والأردن، وهو ما عبّر عن العجز العربي في مواجهة العدو الصهيوني.

واستمرّ الصراع العربي الصهيوني وقرّر جمال عبد الناصر إزالة آثار العدوان وبدء حرب الاستنزاف والتي كبّدت العدو الصهيوني خسائر باهظة، حاول العدو عقد صلح ومهادنة مع عبد الناصر، لكنه رفض وأعلن أنه لا صلح ولا تفاوض ولا اعتراف، وأنّ ما أُخذ بالقوة لا يُستردّ إلا بالقوة، وفي لحظة حاسمة توحّدت الإرادة العربية في مواجهة العدو الصهيوني في حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973 وكان الانتصار على العدو عسكرياً، لكن حتى هذه اللحظة لم يستطع العرب استثمارها، حيث تدخّل العدو الأميركي على الخط وأقنع الرئيس السادات بمعاهدة سلام مزعوم 1978 أعاد العرب لحالة العجز مرة أخرى، حيث تبعتها تنازلات وهزائم متتالية أمام العدو الصهيوني، فقبلت فلسطين بتوقيع اتفاقية أوسلو مع العدو الصهيوني في 1993، ثم تبعتها الأردن باتفاقية وادي عربة 1994، وهو ما عبّر عن عجز عربي عن مواجهة العدو الصهيوني.

ولم يكسر هذا العجز العربي غير صواريخ المقاومة اللبنانية التي أجبرت العدو الصهيوني على الانسحاب من الجنوب اللبناني عام 2000، ثم هزيمته في حرب تموز 2006 تلك الحرب التي استمرّت 33 يوماً اضطر العدو الصهيوني بعدها إلى الانسحاب بعد أن تكبّد خسائر كبيرة بسلاح المقاومة، ومنذ ذلك التاريخ والعدو الصهيوني يعمل ألف حساب للمقاومة اللبنانية.

وعندما اشتعلت نيران «الربيع العبري» اعتقد العدو الصهيوني أنّ القضية الفلسطينية قد انتهت إلى غير رجعة، وحلّ محلّ الصراع العربي الصهيوني، صراع عربي عربي، حيث انشغلت غالبية البلدان العربية بما يحدث داخل مجتمعاتها من حروب مع الإرهاب المدعوم أميركياً وصهيونياً، لذلك جاء قرار ترامب بشأن القدس غير مدروس، معتقداً أنّ العجز العربي قد أصبح عجزاً كاملاً ولن يتحرّك لهم ساكنٌ فقد أصبحوا جثة هامدة بفعل الفرقة، لكن توقعات العدو الأميركي والصهيوني جاءت في غير محلها. فإذا كانت هناك فرقة وتشتت وعجز على مستوى الحكومات العربية، فإنّ الشعوب العربية ما زالت تنبض بالحياة، لذلك كانت انتفاضته في بعض العواصم العربية، بل والغربية، هذا إلى جانب انتفاضة 300 ألف مواطن مقدسي لن يمرّ القرار إلا فوق جثثهم، فالمقاومة هي الحلّ في مواجهة العدوان الأميركي الصهيوني رغم العجز العربي الرسمي، فتجارب التاريخ تؤكد أنّ المقاومة رغم إمكانياتها المحدودة قادرة على ردع أي عدوان. فبالمقاومة وحدها ستبقى القدس عاصمة أبدية لفلسطين، بل وعاصمة أبدية للعروبة، اللهمّ بلّغت، اللهم فاشهد.

اترك تعليقاً

Back to top button