كاوبوي العالم
د. عدنان منصور
مشروع القرار الذي طُرح على مجلس الأمن الدولي أول أمس، والذي يؤكد على أنّ كلّ قرار أحادي الجانب، يتعلّق بالقدس، ليس له مفعول قانوني، وينبغي إبطاله. وكما كان متوقعاً فإنّ واشنطن استخدمت حقّ النقض الفيتو ، الذي جاء مخالفاً لموقف 14 عضواً من أعضاء مجلس الأمن، الدائمين وغير الدائمين، وغير مبالٍ بالقرارات الدولية وبالمجتمع الدولي ومبادئه.
مرة أخرى تثبت الدولة العظمى، التي لا تنفك يوماً عن اللهج بحرصها على حقوق الإنسان والقانون الدولي، وعلى تشدّقها في حماية الشعوب وحرّيتها وتقرير مصيرها… أنها دولة ما كانت إلا صورة واضحة جلية، للعنجهية والظلم والاضطهاد والاستبداد ضدّ الشعوب المتطلعة إلى الحرية والاستقلال الحقيقي والرافضة للتبعية لقوى الهيمنة والتسلّط. وما سلوك الولايات المتحدة، في تعاطيها مع شعوب ودول العالم منذ عام 1823 وبعد عقود قليلة من استقلالها، إلا الدليل الحيّ على سياساتها البشعة في العديد من دول العالم وتدخلاتها السافرة التي قوّضت دولاً وأطاحت بأنظمة وقضت على زعماء وسحقت شعوباً وهي تتغنّى بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
ألم تغزُ الولايات المتحدة نيكاراغوا عام 1823 وتدخل قواتها إلى البيرو عام 1925. ألم يزحف الجنرال تيلور عام 1846 على المكسيك ويرغمها على التخلّي عن أجزاء كبيرة من أراضيها للولايات المتحدة؟!
في عام 1855 غزت القوات الأميركية الأورغواي وبنما، وعام 1857 غزت كولومبيا. وفي عام 1890 دخلت قواتُها إلى العاصمة الأرجنتينية بيونس أيرس. وفي عام 1898 شاركت في حرب استقلال كوبا ضدّ إسبانيا، حيث أُجبرت كوبا في ما بعد على توقيع اتفاقية تعطي واشنطن حق التدخل في أيّ وقت.
استمرّ اليانكي الأميركي في غزواته للهندوراس عام 1903 وهاييتي عام 1904 والسلفادور عام 1932. والإمساك بجمهوريات الموز في أميركا الوسطى، بالإضافة إلى مشاركتها في الحروب التدميرية في فيتنام، وكوريا، وكمبوديا، ودعمها لعصابات الكونترا في نيكاراغوا عام 1980 وغزوها جزيرة غرينادا عام 1983 وإسقاطها حكم حزب العمال الثوري في الدومينيكان على يد المارينز بقيادة الجنرال جون وازن عام 1965، وغزوها عام 1989 جمهورية بنما.
لم تكتف الولايات المتحدة بهذا القدر، بل ذهبت بمخابراتها إلى حياكة المؤامرات، وزعزعة الاستقرار، وتأجيج الفتن والحروب الأهلية في العديد من دول العالم، حيث أدارت الانقلابات العسكرية عام 1949 في سورية، ودعمت انقلاب باتيستا في كوبا عام 1952، ونفذت انقلاباً عسكرياً ضدّ حكومة محمد مصدق الوطنية في إيران عام 1953، وانقلاباً في غواتيمالا بعد قصف العاصمة عام 1954، وكانت وراء عملية خليج الخنازير في غزو كوبا عام 1961 بواسطة المنفيين الكوبيين بدعم مباشر من واشنطن واستخباراتها «سي أي آي»، وتدخلت عسكرياً في لاوس عام 1964، ودعمت انقلاب سوهارتو عام 1968 الذي أطاح بالزعيم الوطني أحمد سوكارنو. وأخمدت الثورة في بوليفيا بعد قتل الثائر الأممي تشي غيفارا عام 1967، وإسقاطها النظام الديمقراطي في تشيلي بزعامة سلفادور اللندي ومجيئها بالطاغية الدكتاتور بينوشيه عام 1973.
بذريعة أسلحة الدمار الشامل، وعملاً بشعار «الحرية والديمقراطية»، غزت الولايات المتحدة العراق عام 2003، ودخلت الصومال بقواتها عام 1992 – 1994، وتدخّلت في يوغوسلافيا عام 1994 لتقوم بقصفها عام 1999، واحتلّت أفغانستان عام 2001، ناهيك عن التصفيات الجسدية التي قامت بها أجهزتها ضدّ الوطنيين في العالم، التي كانت ترى فيهم تهديداً للمصالح الأميركية وحلفائها، وللأمن القومي الأميركي… واستخدامها للأسلحة المحرّمة دولياً، من السلاح النووي الذي استخدمته في هيروشيما ونكازاكي، والأسلحة الجرثومية والكيميائية في أكثر من مكان في العالم، واليورانيوم المنضّب الذي استعمل بشكل واسع في العراق عام 1991 و2003.
عيّنة قليلة قليلة من مئات المؤامرات والأساليب القذرة التي حيكت بحق شعوب ودول في العالم على مدى قرنين من الزمن.
وتأتي فلسطين على رأس اللائحة، التي عانت الكثير الكثير ولا تزال… حيث أظهرت الولايات المتحدة منذ قيام الكيان الصهيوني عام 1948، دعمها الكامل للصهاينة من دون ضوابط أو حدود، ومن دون اكتراث بالشرعية والقرارات الدولية ذات الصلة، وبالمجتمع الدولي، وانحيازها القبيح للكيان الصهيوني غير عابئة بحقوق شعب فلسطين، ضاربة عرض الحائط المنظمة الدولية وقراراتها، متحدّية العالم كله بغطرستها وتماديها في تحدّيها للقانون الدولي ولقرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن، من خلال قرارها القاضي بنقل سفارتها إلى القدس، وطرح الفيتو ضدّ مشروع القرار الذي يُدين نقل السفارة الأميركية، الذي أيّدته غالبية دول المجلس، لتكشف واشنطن مرة أخرى عن وجه الكاوبوي الأميركي، الذي يعبث بالشرعية والقوانين والاتفاقيات الدولية، ويثبت أنه أبعد ما يكون عن الصدقية والثقة، في تعاطيه مع دول العالم وشعوبه، وهو الذي ينادي دائماً بالحرية وحقوق الإنسان.
لم تكتف واشنطن بقرار ترامب المشؤوم، بل ذهبت وقاحة مندوبة الولايات المتحدة الدائمة في مجلس الأمن نيكي هايلي، ما بعدها وقاحة، عندما اعتبرت «أنّ التصويت في مجلس الأمن على مشروع قرار يدين قرار الرئيس الأميركي ترامب، هو إهانة لن ننساها أبداً..»!
التصويت ضدّ قرار ترامب إهانة… لكن، ألا يشكل طرح الولايات المتحدة الفيتو للمرة الثالثة والأربعين منذ عام 1973 وحتى اليوم على مشاريع قرارات ترتبط بفلسطين وشعبها وتستند إلى قرارات شرعية دولية، انحطاطاً أخلاقياً وسياسياً، وسلوكاً لا صدقية له بالمرة، وسياسات قذرة وقحة، تنمّ عن استهتار بالمجتمع الدولي وقيمه ومبادئه، واستخفاف مهين بشعوب العالم ودوله، إرضاءً لكيان غاصب، ما كان إلا أداة ضغط يُملي قراره على سيد البيت الأبيض منذ عقود وحتى اليوم.
لقد قالها مرة وزير الخارجية الأميركي دين واسك: «لقد أظهرت إسرائيل المرة تلو المرة، أنها لا تدور في فلك الولايات المتحدة، ومن المهمّ كذلك أن يدرك المجتمع أنّ الولايات المتحدة لا تدور في فلك إسرائيل»…
بقي على العالمين العربي والإسلامي، أنّ يدركا جيداً، أنّ الأسف، والاستنكار، والقلق، والصمت، والخنوع، والتواطؤ لا يكفي حفظَ الحقوق وحماية القدس وشعب فلسطين. وما الفيتو الذي طرحته واشنطن، إلا صفعة قوية في وجوه أصدقائها وعملائها وحلفائها وعبيدها في المنطقة، لأنها تعرف حقيقتهم، وأنّهم لا يستحقون منها إلا الفيتو المذلّ المهين، وهم الذين تعايشوا عقوداً مع الإذلال الأميركي والإهانة «الإسرائيلية»…
هوذا فيتو ترامب، يرسم العرب والمسلمين والمسيحيين على السواء… أنه فيتو الكاوبوي الأميركي الذي يُلحق الويلات بشعوب العالم منذ قرنين من الزمن ولا يزال.
وزير سابق