قرار الأمم المتّحدة انتصار للقدس وإدانة جماعيّة لأميركا
أسامة العرب
بعدما لجأت واشنطن الإثنين الماضي إلى حقّ النقض لتعطيل مشروع القرار الأممي الذي يدين قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشأن القدس، بينما وافق أعضاء المجلس الأربعة عشر الباقون عليه وبعدما صدر الثلاثاء الماضي قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة المؤكّد حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم بتأييد 176 دولة، مقابل معارضة 7 دول الولايات المتحدة الأميركية، وإسرائيل، وجزر مارشال، وميكرونيزيا، وناورو، وبالاو ، فيما امتنعت أربع دول فقيرة عن التصويت الكاميرون، وهندوراس، وتوغو، تونغا . وافق حينها رئيس الجمعية العامة ميروسلاف لايتشاك على عقد جلسة طارئة للتصويت على مشروع قرار بشأن القدس ولم تنته تلك الجلسة إلا بتحذير السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة نيكي هايلي أن بلادها ستكتب أسماء الدول التي ستصوّت في الجمعية العامة للأمم المتحدة ضد الاعتراف بالقدس عاصمة لـ«إسرائيل»، في إشارة منها إلى إجراءات عقابية تتخذها واشنطن بحق الدول التي تقدم لها مساعدات، وأعقبها ترامب الأربعاء الماضي 20 كانون الأول، بتأكيد ما قالته هايلي، قائلاً عشية التصويت في الجمعية العامة، يأخذون مئات ملايين الدولارات وحتى مليارات الدولارات ثم يصوّتون ضدنا، مضيفاً في تهديد واضح دعوهم يصوّتوا ضدنا، سنقتصد الكثير من المال والأمر سيان بالنسبة إلينا.
وطبقاً للأرقام المعلنة من قبل وكالة المساعدات الأميركية لعام 2016، فإن الولايات المتحدة قدّمت حوالي 13 مليار دولار كمساعدات اقتصادية وعسكرية لدول في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ونحو 6.7 مليار لدول في جنوب ووسط آسيا و1.5 مليار دولار لدول أوروبا وأوراسيا. وقدّمت الولايات المتحدة حوالي 13 مليار دولار مساعدات إضافية لدول أفريقية جنوب الصحراء الكبرى، و 1.6 مليار دولار لدول شرق آسيا وأوقيانوسيا.
رغم التهديد الأميركي، انعقدت الجلسة الطارئة للجمعية العامة للأمم المتحدة الخميس الماضي، وفق القرار 377 المعروف بقرار الاتحاد من أجل السلام، وصدر القرار الأممي بموافقة 128 دولة وقضى باعتبار قرار ترامب بشأن القدس مجرّداً من أي مفعول قانوني وباطلاً ويتعيّن سحبه، لا سيما أن القرار الأميركي يخالف الشرعية الدولية وجميع قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن السابقة، والتي تعتبر مدينة القدس محتلة «إسرائيلياً» بنظر القانون الدولي. والجدير بالذكر أن الجمعية العامة للأمم المتحدة المنعقدة وفق القرار 377 المتخذ عام 1950، تكتسب صلاحيات مجلس الأمن، لأنها تنعقد بشكل طارئ تحت عنوان متّحدون من أجل السلام، في الحالات التي يتواجد فيها تهديد أو خرق للسلام أو عمل من أعمال العدوان، ولا يتمكّن مجلس الأمن الدولي من اتخاذ قرار بسبب استعمال دولة دائمة العضوية حق الفيتو ضد القرار وتصدر الجمعية العامة في هذه الحالة قرارات تختلف كلياً عن القرارات الصادرة عنها بشأن القضايا الأخرى، وتقضي باتخاذ تدابير جماعية لصون أو إعادة السلام والأمن الدوليين. وقد عقدت الجمعية العامة عشر جلسات فقط من هذا النوع، كانت آخرها في 2009 بشأن القدس والأراضي الفلسطينية الأخرى المحتلة، وجلسة الخميس الماضي كانت استئنافاً للجلسة المنعقدة عام 2009.
لكن من العار أن تصوّت إلى جانب الولايات المتحدة وإسرائيل وهندوراس وغواتيمالا وميكرونيزيا وناورو وبالاو وجزر مارشال، دولة إفريقية هي التوغو. ومن المؤسف أكثر، أن هذه الدولة زعمت مؤخراً تأييدها لحقوق الشعب الفلسطيني ولقضية القدس بالذات، كما زعمت بأن تحالفها الاستراتيجي مع «إسرائيل» وقممها العديدة المعقودة معها، سوف لن تجعلها منحازة إلى الصف «الإسرائيلي» في مواجهة الموقف الموحّد لدول المغرب العربي وسائر الدول الأفريقية، لكن سرعان ما ذاب الجليد وظهرت أكاذيب هذه الدولة! كذلك فمن الملاحظ بأن العديد من الدول الأخرى امتنعت عن التصويت ممتثلةً للتّهديدات والضغوط الأميركيّة وسحبت تأييدها لقضية القدس: كأنتيغوا بارباو والأرجنتين وأستراليا والباهاماس وبنين وبوتان والبوسنة وجمهورية أفريقيا الوسطى وكولومبيا وكرواتيا والدومنيكان وغينيا الاستوائية وفيجي وهاييتي وهنغاريا وجامايكا وكيريباتي ولاتفيا وليسوتو ومالاوي والمكسيك وبنما والباراغواي والفلبين وبولندا ورومانيا ورواندا وجزر سليمان وجنوب السودان وترينيداد توباغو وتوفالو وأوغندا وفانواتو.
وبالرغم من كل ذلك، علقت المندوبة الأميركية نيكي هايلي عقب التصويت قائلةً إنّ ما شاهدناه اليوم في مجلس الأمن هو إهانة لن تُنسى للولايات المتحدة، وأضافت أن الأمم المتحدة تسبّب ضرراً أكثر من النفع في معالجة الصراع «الإسرائيلي» الفلسطيني.
لكن لا أحد يفهم سبب انصياع دونالد ترامب ومندوبته نيكي هايلي لجميع الضغوط «الإسرائيلية»، لا سيما تلك التي يمارسها اليمين «الإسرائيلي» عليهما، أهي ضعفه في الداخل الأميركي أم حركة الاحتجاجات التي عمّت الشارع فور توليه سدّة الرئاسة أم ربما المساءلة التي يتعرّض لها والمقرّبون منه بسبب آلية انتخابه. والمفارقة أن المؤتمر السنوي الفرعي للحزب الديمقراطي في ولاية كاليفورنيا الأميركية تبنّى قراراً هو القرار الأميركي الأول من نوعه الذي يدين فشل الإدارات الأميركية المتعاقبة في الضغط على حكومة «إسرائيل» لوقف خطواتها الفعلية لتغيير الوضع الراهن في الأراضي الفلسطينية المحتلة بما يحول تحقيق عملية سلام حقيقية. ودعا القرار واشنطن إلى العمل من خلال الشرعية الدولية وعبر الأمم المتحدة والهيئات الدولية الأخرى لتعزيز السلام العادل القائم على المساواة الكاملة والأمن لـ«الإسرائيليين» والفلسطينيين على حد سواء، بما يضمن حقوق الإنسان وتنفيذ القانون الدولي. واللافت أن الخلافات الداخلية الدائرة بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، دفعت الحزب الديمقراطي في 23 كانون الأول عام 2016 للسعي المبطّن لتمرير القرار 2334 في مجلس الأمن، والذي أدان احتلال مدينة القدس واعتبر المستوطنات «الإسرائيلية» في الضفة الغربية غير شرعية وحينها علّق الرئيس ترامب، والذي لم يكن قد تسلّم منصبه رسمياً بعد، بأن الأمور ستتغير كلياً بعد مراسم التنصيب في 20 كانون الثاني 2016.
كما خلص استطلاع آراء أجرته جامعة مريلاند مؤخراً إلى أن 63 في المئة من الأميركيين يعارضون نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس. السؤال الذي يطرح نفسه هنا، بعد كل هذا الفشل السياسي والديبلوماسي الأميركي، والصراعات والاستقالات والإقالات والتحقيقات والانتقادات، وكلّ الضرر الذي لحق بسمعة وصورة الولايات المتحدة على الساحة الدولية والأممية، هل يكمّل الرئيس ترامب ولايته؟ يرى موقع إندبندنت البريطاني، إنه من الممكن ألا يستكمل الرئيس الأميركي، دونالد ترامب ولايته الرئاسية. وكان وزير العمل السابق، روبرت رايش قد قال إن الرئيس الأميركي دونالد ترامب قد يتعرّض لعملية سحب الثقة. كما توقّع المؤرّخ الرئاسي الأميركي رونالد فينمان بأنّ الضغط الشعبي والدولي سوف يدفع ترامب للاستقالة، ليكون بذلك ثاني رئيس يستقيل بعد ريتشارد نيكسون عام 1974.
أخيراً، إن قرار الجمعية العامة الذي صدر مساء الخميس بشأن القدس، هو انتصار باهر تحققه الدبلوماسية الفلسطينية، وهو نجاح سياسي يجب البناء عليه، لأنه يحول دون تهويد القدس ودون نقل أغلبية دول العالم سفاراتها إلى القدس. ولذلك يمكن القول بأن القرار الأممي يحافظ على إبقاء القضية الفلسطينية تحت مجهر الاهتمام الدولي وفي السطر الأول دوماً. إنّه قرار تشعّ منه بارقة الأمل بأن المقل أفضل، بجهود يجب أن تُقاد لانتزاع اعتراف الأمم المتحدة بعضوية كاملة لدولة فلسطين ولإبقاء القدس «زهرة المدائن» وإعطاء النضال الفلسطيني شكلاً جديداً تفوح منه رائحة النصر في حماية القدس والمقدسات.