مرفأ الحديدة… وحلب والقدس
ناصر قنديل
– يمكن القول إن خارطة الشرق الأوسط الجديد، والانتقال إلى زمن البحار الخمسة بالرعاية الروسية لنظام إقليمي جديد، ترسم حدودها من حلب إلى الحديدة، وبينهما القدس، ففي حلب رُسمت حدود الدور التركي الذي شكل لخمس سنوات رأس الحربة في المشروع الأميركي لإحياء منظومة الشرق الأوسط الجديد الذي أرادته واشنطن من حرب تموز 2006 لسحق المقاومة في لبنان، كما صرّحت يومها وزيرة الخارجية الأميركية غونداليسا رايس، حيث أعيد تشكيل الدور التركي وصياغة منطلقاته من معركة حلب التي وضعت تركيا بين خياري الدخول في حرب شاملة مع روسيا وإيران وسورية والمقاومة من دون شراكة حلفاء تركيا في دول الغرب، وعلى رأسهم أميركا، أو التموضع عند خطوط جديدة للأمن التركي عنوانها منع قيام كيان كردي على الحدود، من خلال منظومة جديدة تضمنها روسيا وتشارك فيها إيران.
– يحتل مرفأ الحديدة في الحساب السعودي مكانة حلب في الحساب التركي، ومحاولة السعودية الحسم العسكري للسيطرة على الحديدة تشبه المحاولات التركية المتتابعة لحسم عسكري في حلب، وكما كانت حلب حلماً تركياً للتقدم نحو دمشق بصفتها العاصمة الثانية لسورية، تنظر السعودية للسيطرة على الحديدة كمقدمة للسيطرة على صنعاء. ومعادلة إسقاط الحديدة رتبت على السعودية معادلة تساقط الصواريخ على الرياض، وصارت الحرب المفتوحة على الحديدة بالغارات السعودية تعادل المزيد من الصواريخ على الرياض. وبعد ممانعة سعودية أمام كل محاولات الوساطة الأممية لفتح مرفأ الحديدة أمام السفن الإغاثية، رضخت السعودية للصواريخ التي استهدفت الرياض وأعلنت فتح الحديدة للسفن التجارية وسفن الوقود، بوساطة عمانية تضمنت طلباً سعودياً لهدنة تتوقف خلالها الصواريخ على الرياض. وهذه ليست إلا البداية لتموضع سعودي يشبه ما حدث مع تركيا، في مد وجزر، وتقدّم وتراجع، حتى تم القبول بمعادلة حلب، وقد صارت معادلة الحديدة قريبة، كما يبدو.
– بدأ السعوديون مساعيهم نحو روسيا بتحييد ملف اليمن عن المحادثات، وبالتتابع صار الملف اليمني على الطاولة بقدر ما صار المأزق السعودي واضحاً. وينتهج الروس في الملف اليمني مقاربة مختلفة عن مقاربتهم في سورية بالتأكيد. فهم يسلّمون بأن الخليج منطقة نفوذ أميركية بالمقياس الدولي، ولو كان منطقة نفوذ إيرانية بالمقياس الإقليمي، والدور الروسي في الخليج مختلف عنه في سورية، فهو في الخليج وسيط وفي سورية طرف، والحضور الروسي في ملف اليمن يشبه الحضور الروسي في ملف كوريا الشمالية، تظهير موقف معلن يبدو قريباً من الموقف الأميركي، لكنه ضمناً يراهن على المأزق الأميركي ليتدخّل. وبمثل ما ذهبت السعودية لشراء منظومة الصواريخ الحديثة من روسيا ربطت روسيا تسليمها بمناخ إقليمي بعيد عن التصعيد وأبدت استعدادها لوساطة بين السعودية وإيران، كما تبدي في اليمن دعمها للمساعي السياسية للحل، وتنتظر اليأس السعودي من الحل العسكري لتتقدّم.
– القدس مفتاح النظام الإقليمي الجديد، حيث المواجهات ترسم الصورة المقبلة، بعدما بدا بوضوح استحالة أخذ الفلسطينيين على حين غرة، واستحالة تمرير الحلول المتفق عليها مع السعودية من وراء ظهر الفلسطينيين، واستحالة شطب القدس من الذاكرة الإنسانية، وبدا بوضوح أشدّ أن قدرة الفلسطينيين على تحمل زمن المواجهة أعلى بكثير من قدرة «الإسرائيليين» على تحمل حرب الاستنزاف، وفقدان الأعصاب هو التعبير. الفلسطينيون يقابلون سقوط شهدائهم بصبر ويواصلون حربهم بهدوء وحيوية، و«الإسرائيليون» يقابلون أزمتهم الدبلوماسية بغضب فيفقدون أعصابهم ويبدأون بالإنسحاب من المنظمات الدولية التي يدخلها الفلسطينيون، بدءاً من الأونيسكو أمس. وعندما يصرخ «الإسرائيليون» من الوجع طلباً للوساطة سيطل الروس برأسهم، كما قالوا بالأمس بعد اتصال بين الرئيس الروسي والرئيس التركي، أن موسكو مستعدة للتوسط من أجل حل سياسي يحقق السلم الثابت بتطبيق القرارات الدولية.
– واشنطن منحت السعودية و«إسرائيل» ما تريدان للتنصل من شروط «التسويات المؤلمة»، وعند الفشل سيطلبان المساعدة من صديق.