التحالفات الكبرى في لبنان ممنوعة… إقليمياً!
د. وفيق إبراهيم
تزداد العراقيل التي تحول دون تشكيل أحلاف واسعة بين القوى المتنوّعة في لبنان، فتبدو الاشتباكات بينها وكأنّها على مواضيع داخلية، لكنها ليست أكثر من محاولات لحجب الأدوار المعترضة لقوى الإقليم المهيمنة على لبنان. هذه القوى تعتبر ازدياد تأثيرها رهناً بتعميق الانقسامات الداخلية.
آخر هذه الأحلاف المطروحة هو الحلف الخماسي المفترض أن يضمّ تيار رئيس الجمهورية الوطني الحرّ المسيحي ، وحزب رئيس الحكومة سعد الحريري المستقبل السنّي ، والثنائية الشيعية لحزب الله وحركة أمل، والحزب الاشتراكي الدرزي للوزير وليد جنبلاط. وهذه قوى وازنة تحتكر التفاعلات السياسية، وتكاد تسيطر على أكثر من 75 في المئة من الناخبين باستعمال الوسائل التقليدية في التحشيد والجذب.
أمّا الباقون خارج هذا الحلف، فهم الأحزاب المسيحية في القوات اللبنانية والكتائب و»الوطنيين الأحرار» والمردة والشخصيات المستقلة، والذين ينافسون رئيس الحكومة سعد الحريري في زعامته «السنية» معتمدين على تأييد خليجي لهم. هذا بالإضافة إلى قوى سياسية درزية وشيعية ووطنية أخرى تنقسم بين تأييد المقاومة وحزب المستقبل.
إنّ طبيعة هذا التعاهد الخماسي تشي بأنّه يريد السيطرة على الانتخابات النيابية المقبلة بشكل يؤمّن غالبية المقاعد في إطار من التسويات الطائفية، فيصبح بوسع أحزابه السيطرة على التعيينات الإدارية وتوزيع المال العام بما يخدم هيمنتها الداخلية.
لذلك يقدّم هذا التحالف صورة طاغية بوسعها الإمساك بلبنان بشكل كامل، وإقصاء القوى المناوئة له في المذاهب والطوائف كافة.
ولتأمين أوسع قاعدة له، يستطيع حزب المستقبل إرضاء شخصيات مسيحية متحالفة معه بمقاعد نيابية من حصته في التحالف. وينطبق الأمر نفسه على حزب الله وحركة أمل اللذين يستطيعان أيضاً إرضاء تحالفاتهما من بين الأحزاب والشخصيات السنية والمسيحية والدرزية.
بأيّ حال، تدلّ هذه الفرضيات على ما يعنيه هذا التحالف الخماسي من إمكان الاستحواذ على كامل المشهد السياسي الرسمي والشعبي في لبنان، ما قد يؤدّي إلى إنتاج موقف لبناني «موحّد» من أحداث الإقليم. ولن يكون إلا في إطار الابتعاد عن الصراعات العربية والإسلامية على قاعدة أنّ العدو «الإسرائيلي» والإرهاب هما العدوّان الاساسيان للاستقرار الداخلي.
فهل هذا ممكن؟
يتزعّم رأس لائحة المعترضين الأحزاب المسيحية غير الموجودة في التحالف، الذي تعتبره مشروع انقلاب للسيطرة على الدولة وإبعادها عنها، وتساندها «قوى كهنوتية» تضغط بدورها على رئيس الحكومة سعد الحريري لمنعه من استبعاد «حزب جعجع» ومحاصرته.
ولهذا الكهنوت علاقاته الغربية التي لا تقبل بأدوار كبرى لحزب المقاومة في الدولة اللبنانية. كما يرد على هذه اللائحة معظم القوى الدينية من المدارس المتطرّفة التي لا تزال ترى أنّ الصراع السني الشيعي هو العنصر الأساسي المطلوب توفيره لمنع حزب الله من مقاتلة الإرهاب في الإقليم. لكن هذه القوى المعترضة لا تستطيع بمفردها منع تشكّل الحلف الخماسي، فتتجه إلى المساندات الإقليمية والدولية الحاسمة التي تمتلك قدرة على الإقناع.
والمعروف أنّ لبنان يعتمد تاريخياً على قوى إقليمية مسنودة دولياً، هي التي تحدّد سياساته الخارجية، وتترك لنظامه السياسي التدبّر الداخلي بالحدود الضيقة. وتبدّلت هذه القوى تبعاً لتطوّر العلاقات الدولية والإقليمية بدايةً مع فرنسا دولة التأسيس اللبناني، مروراً بالوريثة الأميركية التي سيطرت على العالم بدلاً من الحلف الفرنسي البريطاني التاريخي، وشاركتها النفوذ في لبنان مصر الناصرية في أواخر الخمسينيات، لكنّ خروج مصر من الصراع العربي «الإسرائيلي» في كامب ديفيد 1979، ودخول سورية الأسد في لعبة الأدوار في لبنان، جعلت دمشق من أصحاب النفوذ في لبنان حتى 1990. وتشاركت مع إيران في تقاسم هذا الدور حتى 2001، تاريخ اندلاع الهجوم الإرهابي على سورية، الأمر الذي جعل من واشنطن وطهران أهمّ قوتين تؤدّيان دوراً لبنانياً لعلاقتيهما بقوى متنوّعة في الداخل إلى جانب السعودية التي تطوّر دورها اللبناني إلى حدود قياسية مع سيطرة آل الحريري على رئاسة الحكومات المتعاقبة.
لكنّ نجاح التيار الوطني الحر في إيصال مرشّحه العماد ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية، وتراجع الدور الأميركي لتحبيذ واشنطن إيكال المهام في «الشرق الأوسط» إلى قوى إقليمية، جعل من السعودية وفرنسا وإيران قوى محورية تمتلك وسائل لإقناع الفئات اللبنانية.
لذلك، فإنّ لهذه القوى آراء متنوّعة في هذا الحلف الخماسي… هل يناسب أدوارها في لبنان والإقليم؟ أما قد يؤدّي إلى صعود قوى معادية لها؟
لجهة إيران، فإنّها موافقة على هذا الحلف، لأنّه يمنح حزب الله فرصة الشرعية السياسية والدستورية، معزّزاً أدوار حلفائها ومؤدّياً بالتالي إلى استقرار لبناني لا يستهدف حزب المقاومة كعادته. كما أنّه يقضي على قوى سياسية معادية «بالولادة» لإيران وحزب الله. وهي على التوالي أحزاب القوات اللبنانية والكتائب و»الأجنحة الإسرائيلية»، دافعاً إلى خنق التيارات الوهابية والتكفيرية في حزب المستقبل وخارجه، خصوصاً بين شخصيات مدعومة من جهات خليجية. وهذا يكشف عن استحسان إيراني لهذا الحلف، ينعكس في تأييد حزب الله وحلفائه له بشكل لافت.
على مستوى فرنسا، فهي لا ترى بدورها غضاضة في هذا الحلف، لأنّها تعرف أنّ جبهة المقاومة واسعة في لبنان، وعلى درجة عالية من القوة والتمكّن، ما يجعل من محاولات القضاء عليها مسألة عبثية. وتراهن باريس على انتهاء الحرب في سورية والعراق، ما يفرض على حزب الله انسجاماً أكبر في دعم الاستقرار اللبناني، لذلك تجد فرنسا أنّ مصلحتها في العودة إلى المنطقة من البوّابة اللبنانية بشرط البحث بدقّة عن قواسم مشتركة «مدنية» مع حلف المقاومة المؤدّي إلى طهران، وربما… إلى موسكو.
وتعتبر فرنسا أنّ لديها أوراقاً كثيرة في لبنان، تبدأ بالتيار الوطني الحر مروراً بحزب المستقبل، ولا يضيرها أيّ تحالف لأنّها قد تكتفي بهذا التحالف الثنائي بين عون الحريري إذا تأزّمت أوضاع الحلف الخماسي وتعذّرت ولادته.
أمّا المعادي الأساسي للحلف الخماسي، فهي السعودية التي تعتبر أنّ أيّ اتفاق مع حزب الله سيكون في مصلحة أعدائها في إيران وحزب الله.
وهناك من يقول إنّ الرياض أرسلت إنذاراً إلى الحريري بضرورة الامتناع عن التحالف مع حزب الله، وعدم التخلّي عن حزب القوات اللبنانية. وكان النظام السعودي استدرج رئيس الحكومة سعد الحريري إلى الرياض واعتقله وأرغمه على الاستقالة، لأنّه لم يخاصم إيران وحزب الله بالقدر الكافي.
هذا ما دفع بآل سعود إلى تأزيم الوضع الدبلوماسي مع لبنان بالامتناع عن استقبال السفير اللبناني الجديد لديهم، وتلكّؤ السفير السعودي الجديد في لبنان بتقديم أوراق اعتماده في بيروت، وبخطوات متوازية تدعم السعودية شخصيات سنّية متطرّفة للاستمرار في استعداء حلف المقاومة والتحضّر لانتخابات نيابية قد تؤدّي إلى دعم الرياض لرئيس بديل من سعد الحريري لرئاسة الحكومة.
ضمن هذا الإطار، تتراجع حظوظ الحلف الخماسي لمصلحة تحالفات موضعية تضرب في كلّ اتجاه، وهذا يعني أنّ الإقليم مستمرّ في ابتلاع السياسات الخارجية للبنان في حركة لا تتغيّر إلا بانهيار النظام السياسي الطائفي الذي يمدّه الإقليم بمختلف أسباب الحياة للزوم مصالحه وحاجاته… فمتى يأتي هذا اليوم؟