التفاهم الروسي الأميركي يتصدّع في سورية!

د. وفيق إبراهيم

يشهد الميدان السوري تصعيداً ملحوظاً في مستوى التنافس الأميركي الروسي يهدّد بالانزلاق من مستوى المجابهات غير المباشرة إلى مواجهات مكشوفة. أمّا الأسباب فتعود إلى عرض مشبوه تعهّد فيه الأميركيون بعدم استهداف المناطق التي توالي الدولة السوريّة، مقابل تحاشي تقدّم الجيش السوري نحو شرق البلاد ابتداءً من الحدود مع العراق حتى الحدود مع تركيا، وعلى طول خط نهر الفرات.

وهذا عرض يؤدّي فوراً إلى تقسيم سورية إلى ثلاث دوائر: إحداها للدولة بمساحة تزيد عن 65 في المئة من مساحة البلاد، مقابل عشرين في المئة للمنطقة الكردية العشائرية الأميركية، ونحو عشرة في المئة لـ «جبهة النصرة» المتعاونة مع الجيش التركي ومنظّماته التركمانية. هذا إلى جانب خمسة في المئة هي مناطق خفض التوتر تنتشر فيها قوى ملتبسة عدة.

لكنّ الردّ السوري الرسمي كان صاعقاً، ومتجسّداً في رفض صارم اعتبر أنّ العرض الأميركي ليس إلا وسيلة لتقسيم سورية وتفتيتها، ومحاولة لاحتواء الهزيمة العسكرية التي مُنيت بها قوى الإرهاب والمعارضات المسلّحة التكفيرية المحسوبة على أميركا وتركيا والخليج.

لجهة الردّ الروسي، فلم يكن أقلّ وضوحاً، لأنّ موسكو حريصة على تحالفاتها مع الدولة السوريّة وإيران على الرغم من أنّها فهمت العرض على أنّه قبول أميركي صريح بحقّ موسكو «برعاية» الدولة السورية بشكل مباشر، لذلك رفض الروس العرض لسببين: لأنه يسيء إلى علاقاتهم بالدولة السوريّة وإيران من جهة، ولأنّه يمنح الأميركيين فرصة إعادة بناء آليات إرهابية جديدة تُعيد بعد مدة ليست بعيدة شنّ حروب في سورية والعراق ولبنان، وهذا ما دفع بموسكو إلى تأكيد أنّ هدفها في 2018 هي «جبهة النصرة» بكلّ أشكالها ولبوسها المتعدّدة. وهذا يكشف أنّ المشروع الأميركي شرق الفرات ليس بعيداً عن متناول الرقابة الروسيّة، بوسائل متعدّدة منها الأقمار الاصطناعية والاستخبارية.

لقد تبيّن لموسكو أنّ 14 قاعدة أميركية تنتشر شرق سورية، وتعمل ليلاً نهاراً على بناء ما أسمته «جيش سورية الجديد» المتشكّل من القوات الكردية «قسد» وعشائر عربية سوريّة نظّمتها المخابرات السعودية وموّلتها برعاية وزير الدولة السعودي لشؤون الخليج ثامر السبهان، بالإضافة إلى أعداد كبيرة من منظمات «داعش» و«النصرة» وجيش الإسلام وفيلق الرحمن وبضع مئات من الأنفار يشكّلون ما يسمّى «الجيش الحر»، ولأنّ موسكو تعرف أنّ «النصرة» هي المنظمة الأكثر عدداً، وجّهت إعلاناً صريحاً بأنها على رأس لائحة المستهدفين للعام 2018.

وهذه رسالة مزدوجة للأميركي والتركي معاً، لأنّ الأول يريد تنظيمها في آليّاته العسكرية الجديدة لإعادة إحياء الإرهاب. أمّا التركي، فيريد استخدامها ليحقق دوراً لحلفائه من الإخوان المسلمين السوريين في التسوية السلمية المرتقبة.

والدولة السورية الملمّة بمطامع الأتراك لم تتأخّر في تسديد اتهامات للأتراك بأنّهم قوى تحتلّ الشمال السوري وتدعم المنظمات الإرهابية، وهذا ما دفع بأنقرة إلى التشنّج والعودة إلى الخطاب التقليدي الذي يزعم «أنّ بقاء الرئيس الأسد في السلطة جريمة كبرى».

هناك إذن قوّتان متقابلتان، يفصل بينهما نهر الفرات، لكنّه لن يطول منعهما من المجابهة، وهما 14 قاعدة أميركية ومعها فلول الإرهاب ومنظّمات الكرد وجيش سورية الجديد، مقابل الجيش السوري وحلفائه الروس والإيرانيين وحزب الله والقوى الرديفة والحليفة. وما يدفع باتجاه رفع مستوى التوتّر بين الفريقين، هو الطيران الروسي الذي يريد استئناف نشاطه في قصف ما تبقّى من أراضٍ سوريّة يعيث فيها الإرهاب، خصوصاً في الغوطة الشرقية وشرق الفرات ومنطقة إدلب. ولأنّ هاتين المنطقتين هما تحت الوصاية الأميركية والتركية، فلا شكّ في أنّ مستويات التفاهم بين الروس وهذين الفريقين ذاهبة إلى مزيد من التوتر.

بالنسبة للأميركيين، فلن يقبلوا بتدمير «آليّاتهم الإرهابية» الجديدة، لأنّهم يعوّلون عليها لإعادة تجديد دورهم المتراجع في سورية والعراق. فهل يتركون التحالف السوري الروسي الإيراني يكمل عملية تحرير سورية بتحرير شرقها؟

لذلك، أعلن وزارة البنتاغون الأميركي رفض بلاده سحب قواتها من سورية في موقف يدفع إلى مزيد من التأزّم في تفاهماتها السابقة مع الروس. الأمر الذي يضع قوات البلدين في مواقف عسكرية لا يُحْسَدون عليها، خصوصاً أنّ الاحتلال الأميركي للحدود السوريّة العراقية انتهى عملياً مع محاصرة القوات السورية لقاعدة التنف الأميركية التي أصبحت معزولة تماماً، ولا سُبل إمداد لها إلا من خلال الطيران وبعض البؤر الإرهابية المجاورة.

فهل تذهب الأمور إلى حدود الاصطدام؟

ما يعزّز هذه الفرضية هو الوجود العسكري لحزب الله والمنظّمات الإقليمية والإيرانية إلى جانب الجيش السوري، هؤلاء لن يدّخروا جهداً لتحرير شرق سورية، فضلاً عن الروس أنفسهم الذين يعلمون أنّ تحرير سورية بكاملها هو إعادة بناء كاملة لدولة صديقة لهم، ومعبرهم إلى الفضاءات السوفياتية السابقة.

بأيّ حال، لن يدخل الأميركيون في معارك جديدة خاسرة، وحين يستشعرون اقتراب الانهيار، فلن يتأخروا في ترك شرق سورية للدولة السوريّة، لكنّهم وعلى مستوى التدبّر واستيعاب ردود الفعل الروسية يتّجهون إلى تسهيل عمليات إرهابية جديدة بدأت في روسيا نفسها بطرسبرغ وأفغانستان والعراق وأوكرانيا، ويُنتظر أن تتكاثر لأنّها مدعومة من الجهات الاستخبارية التقليدية التي سبق ودعمتها منذ 2003 وحتى اليوم، وهي الجهات الأميركية السعودية والتركية.

لذلك يرجّح أن تزداد عمليات «داعش» والقاعدة في أوروبا وروسيا والصين والهند، تلبية لحاجات أميركية ترى أنّ ترويع العالم أفضل وسيلة لتدجينه ضمن مشروع النفوذ الدائم للإمبراطورية الأميركية.

ضمن هذا الإطار، يجري تشجيع الإرهاب على استهداف البلدان الداعمة للدولة السورية وعلى رأسها روسيا، مع العودة إلى اللجوء إلى الفتنة السنّية الشيعية، كما حدث في أفغانسان التي ضرب الإرهاب «الداعشي» فيها مؤسّسات شيعية.

ولاستكمال المشهد الإرهابي، تعطّل واشنطن حركة العراقيين للانتقال إلى الاستقرار، وتستعين هنا بالسعوديين أصحاب الخبرة في تحقيق التدمير والفوضى والفتن المذهبية. وهذا لا يعني أنّ الدولة السورية وحلفاءها لم يربحوا الحرب، فهؤلاء انتقلوا من محيط دمشق والساحل السوري إلى حدودهم مع الأردن والعراق ولبنان، وعلى مقربة من الحدود مع تركيا، ما يعني أنّ الدولة انتصبت على بُنى قوية ومتماسكة، وما يحدث هو آخر المهام لإعادة سورية دولة إقليمية قادرة.

ماذا أيضاً عن التفاهم الروسي مع الترك؟

إنّ مَن يستطيع تحجيم الدور الأميركي، لن يعجز عن استيعاب قلق أردوغان وهمومه الكردية، لكن ليس على حساب استقرار سورية. ولا بدّ من تأكيد أنّ العام المقبل لن يكون إلا سنة تحرير سورية وإعادة تموضعها كدولة رائدة ومحوريّة في المشرق العربي. ميركي أ

اترك تعليقاً

Back to top button