«الشرق الأوسط» في قلب حروب «التموضعات» الجديدة
د. وفيق إبراهيم
فيما تقترب حروب نهاية «الإرهاب» الدولي من خواتيمها، تبتدئ معارك تحسين «التموضع» الذي يسبق عادةً التفاهمات الدولية الثابتة… المسألة هنا ليست بالأيام ولا تستدعي العجلة، لأنها تتعلّق بمحاولات لتحسين النفوذ داخل الدول، وفي ما بينها، وتنظيم مصادر الطاقة والمعابر والاقتصاد والنفوذ السياسي. ما يدلّ على أنّ الصراع العسكري الكبير للاستيلاء على كامل المناطق انحسر وولّى، والبرهان أنّ جيشَيْ سورية والعراق تعانقا عند حدود بلديهما بعد تراجع دام ست سنوات، وتحرّر لبنان من الإرهاب في جباله الشرقية، وصمد اليمن في وجه جحافل التحالف السعودي العربي الدولي. وهذا الأمر ليس «وقتاً ضائعاً» كما يتوهّم البعض، بقدر ما يجسّد الجزء الأكثر وعورة من الحرب على «الشرق الأوسط»، فهناك جيوبوليتيك أميركي طاغٍ ومدمّر سيطر على هذه المنطقة منفرداً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في 1989… إنّه يتصدّع اليوم أمام التحالف الروسي الإيراني السوري العراقي اليمني، مفسحاً المجال لبناء تفاهمات جيوبوليتيكية جديدة على أُسس ثنائية، وربما ثلاثية وأكثر.
لذلك يحاول هذا الجيوبوليتيك الخاص بالمشرق تحسين أوضاعه إلى الحدود القصوى، وهذا يتطلّب «حراكاً» أميركياً سعودياً متنوّع الأشكال في معظم دول المنطقة التي تشهد حالياً «تنقّلاً» لهذه الحركة من بلد إلى آخر تعكس الرغبة بتحسين الأوضاع أكثر من القدرة على قلبها أو إعادتها إلى ما قبل 2017.
كيف يتمظهر هذا الحراك الأميركي السعودي المشترك والمنسّق؟
لا بدّ أولاً من الإشارة إلى أنّ الحلف الأميركي السعودي استبعد «إسرائيل» عن حركته» ليس من طيب خاطر، بل لسهولة الاستنفار الإسلامي العربي في وجه أيّ تحرّك مكشوف من جانب «تلّ أبيب»، خارج فلسطين المحتلة.
لذلك ابتدأ حراك التموضعات بمحاولة أميركية سعودية لجعل المناطق السورية شرق نهر الفرات مسرحاً لـ«كنتنة» سورية، وملعباً لاستمرار الأزمة فيها بواسطة قوات إرهابية جديدة تعمل على بنائها المخابرات الأميركية والسعودية مباشرة ومن دون قفازات، وإلا فكيف يجول الوزير السعودي لشؤون الخليج ثامر السبهان برفقة مسؤولين أميركيين في مناطق الرقة السورية وفي حمى عشائرها وكردها، محدّداً لهم مبالغ التمويل والدعم السياسي والعسكري ونحو 14 قاعدة عسكرية أميركية بتصرّفهم في هذه المنطقة، مع حظر أميركي صارم على حركة سلاحَي الجو الروسي والسوري شرق الفرات؟
لجهة العراق، تعمل تسع قواعد أميركية فيه مع آلاف الجنود ومئات رجال الاستخبارات على وضع الفتن الطائفية والمذهبية أمام أيّ محاولات لبناء نسيج عراقي وطني، كما تدفع نحو انتخابات تأمل من خلالها تفجير التحالفات… والعراق معاً.
لكنّ جديد الحراك الأميركي ليس هنا، بل في لبنان حين حاولت السياستان الأميركية والسعودية تفجيره بفرض الاستقالة على رئيس وزرائه سعد الحريري واعتقاله في الرياض. لقد أُرغم الرجل على ربط استقالته بهيمنة إيران وحزب الله على السياسة اللبنانية، هنا لعب الرئيس ميشال عون بالتعاون مع الفرنسيين وحزب الله دوراً في إجهاض هذه الحركة وكشفها، فلم تؤدِّ إلى تحسين التموضع السعودي الأميركي في لبنان، بقدر ما أساءت إليه، ولم تتزعزع إمكانات حزب الله قيد أنملة، ما أدّى إلى تبرّؤ الأميركيين من هذه المحاولة و«تلبيسها» لـ«وليّ الأمر» ووليه.
لم يلجم هذا الفشل السياستين الأميركية والسعودية، فارتحلتا إلى أعالي اليمن لتنظيم انقلاب على «أنصار الله» من الحوثيين بواسطة حليفهم المفترض علي عبدالله صالح. وهنا أيضاً فشلت المحاولة لسببين: شعبية الحوثيين، وتنبّههم المسبق للاتصالات السرية لعلي عبدالله صالح… فقضوا على محاولته بسرعة قياسية أنهت المراهنات السعودية للاستيلاء على اليمن من داخله، وعادت المراهنة إلى الاجتياح الخارجي العسكري.
وللمزيد من صرف الانتباه عن الهزيمة الأميركية في المشرق، هجم الأميركيون على فلسطين معلنين نقل عاصمتهم إلى القدس الشرقية، في إعلان صريح عن إغلاق باب التفاوض على حلّ الدولتين، وكان مرجوّاً إعلان حلف أميركي سعودي عربي إسلامي «إسرائيلي»، يواصل العداء لحلف المقاومة مع روسيا.
وهنا أيضاً، اصطدم الأميركيون بانتفاضات شعبية من الفلسطينيين والعرب والمسلمين فاجأتهم وصعقتهم، حتى أنّ المشهد انقسم بين دول عربية متواطئة السعودية، الإمارات، السودان، المغرب وبين دول تجذبها السعودية عادةً، لكنّها خشيت من ردود الفعل الشعبية الأردن، مصر وبين شعوب إسلامية لا ترضى عن القدس بديلاً. حتى أنّ القوى الفلسطينية التي لا تزال تفاوض «إسرائيل» امتنعت وهي بصدد العودة إلى قواعدها. الأمر الذي يكشف عمق الأزمة الأميركية السعودية في موضوع فلسطين، فبدلاً من أن يكون موضوعاً لتحشيد إسلامي ضدّ إيران والمقاومة، تحوّل معبراً لإعادة تشكيل «محور فلسطين» القادر على إلغاء كلّ أنواع الفتن المذهبية والقومية لمصلحة «عالم إسلامي» لم يعُد يريد أن يكون مسرحاً لجيوبوليتيك أميركي ينهبه بمعونة الدول الدكتاتورية النفطية، محوّلاً أهله إلى أكبر مستهلكين للسلع الغربية والسلاح غير المستعمَل إلا لقمع الشعوب ورقصة العرضة والزينة.
لم ييأس المحور الأميركي السعودي من البحث عن أنواع حراك جديد يحسّن التموضعات، لكنّهم اختاروا هذه المرة هدفاً، لو نجحوا في تصديعه لضربوا كامل «الشرق الأوسط»، وهو إيران.
هناك استغلّوا احتجاجات مطلبية متعلّقة بالتدهور الاقتصادي وإفلاس شركات ائتمان ومصارف وغلاء أسعار وتوقّف الدولة عن توزيع مخصصات تكرّسها عادةً لملايين الإيرانيين، وحاولوا بواسطتها تفجير إيران وإضعافها، وصولاً لأهداف بعيدة تتعلّق بتفتيتها، وكان بإمكان هذا المشروع أن يضعضع أوضاع حلفاء إيران في اليمن والعراق وسورية ولبنان، ويسيء في آن معاً إلى أصدقائها في أفغانستان وباكستان ومجمل آسيا الوسطى، وبذلك يتحطّم الحلف الروسي الإيراني ومشاريع المقاومة وتحرير فلسطين، والعالم الإسلامي الساعي إلى الخروج من العباءة الأميركية.
وهذا ليس مبالغة، لأنّ لإيران مكانة بنتها «حبة حبة» في أربعة عقود نجحت فيها بإحداث ثقب كبير في الجيوبوليتيك الأميركي في «الشرق الأوسط» لا ينفكّ يتمدّد، مؤدّياً إلى أداء دور كانت روسيا فقدته منذ تاريخ سقوط الاتحاد السوفياتي في 1989.
إنّ تراجع الاحتجاجات وتمكّن الأجهزة الأمنية من قطع حركات الاستثمار الخارجي فيها مؤشران على قوة الدولة الإيرانية، على الرغم من كلّ المعوقات الأميركية السعودية التي تعترض أدوارها منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية في 1979.
إزاء هذا الحراك الفاشل، ارتأى «العبقري» ترامب والمخططون له أنّ بإمكان السياسة الأميركية استعمال باكستان لتحريض البلوش الإيرانيين الذين يسكنون مناطق حدودية معها، فزعم أنّ أموال الدعم الأميركية لباكستان لا تؤدّي أغراضها، متّهماً باكستان بدعم الإرهاب في أفغانستان. وهذا اتهام مضحك، لأنّ واشنطن وإسلام آباد هما الطرفان اللذان دعما القاعدة في أفغانستان منذ سبعينيات القرن الماضي، ونسي ترامب أنّه هو شخصياً من اتّهم أسلافه في البيت الأبيض بأنّهم أسّسوا الإرهاب المتطرّف ودعموه.
فما الذي يريده ترامب من باكستان؟
يسعى بقوة إلى تأسيس علاقة بنيوية بين الاستخبارات الباكستانية والبلوش الإيرانيين برعاية وكالة المخابرات الأميركية، والهدف منها تنظيم «إرهاب مسلّح» يشجّع أقواماً إيرانية أخرى أكراد، أذريين، تركمان، عرب على التمرّد، ولأنّ باكستان لا تزال ترفض هذا المشروع الأميركي، اتجه ترامب لتهديدها بوقف المعونات الأميركية عنها، ولا يبدو أنّ هذا الضغط الأميركي قابل للتحقق لأنّ تحرّك البلوش في إيران من شأنه أن يؤدّي إلى تحرّك البلوش الباكستانيين الذين يشكّلون قسماً هامّاً من سكّانها.
وبذلك يكون الأميركيون بصدد استهلاك معظم الأوراق القابلة للاستعمال في معارك «التموضع»، ولا تبقى لهم إلا ورقتان، الاجتياحات المباشرة بواسطة قوات أميركية، وحرب «إسرائيلية» على سورية ولبنان، وكلّ من الأمرين فيه مخاطرة، وأولها احتمال الخسارة وتدحرج الحرب إلى إقليمية ودولية، وهذا ليس بمصلحة الإمبراطورية الأميركية التي لم تعُد تعرف كيف تصون «أملاكها» الدولية وسط صحوة أممية تزداد قوة لإزاحة التنين الأميركي المستبيح العالم.
هل تستمرّ واشنطن في معارك التموضع؟
قد تجد وسائل جديدة، لكنّها لن تكون أكثر متانة من سابقاتها. ويبدو أنّ معركة كسر احتكار القوة الأميركي وأُحاديّته أوشكت على النهاية، بانتظار إقرار تفاهمات جديدة ترعى السلام في كامل «الشرق الأوسط» المتعدّد الولاءات.