تقاطعات الصراع والتحدّيات الآنيّة…
زهير فياض
انّ تطورات الأحداث وسياقاتها تفرض تحديات مختلفة لا بدّ من التنبّه لها، بالنظر إلى طبيعتها وتشعّباتها وجوانبها المتعدّدة ومدى خطورتها وشموليتها لجوهر كينونة وجودنا السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي والحضاري وفي استهدافاتها للمركز الاستراتيجي العسكري والاقتصادي الذي تمثله بلادنا منذ فجر التاريخ. هذه الأحداث المتنقلة من كيان الى آخر في المدى القومي والمرتبطة بجملة من العوامل الداخلية والخارجية، لا سيما وبشكل أخصّ المشاريع الأجنبية الإقليمية والدولية المتزاحمة تاريخياً في المدى الجغرافي للهلال السوري الخصيب حاضرة العالم الأولى، والحاضنة أقدم وأعرق بنية حضارية في التاريخ الإنساني برمّته. كلّ هذه الأحداث وإنْ جاءت في سياقات مختلفة تعدّدت، بحسب الظروف الموضوعية المرتبطة بواقع الزمان والمكان، ولكنها ارتبطت بحقائق تتصل بأزمات داخلية وبنيوية ومشكلات سياسية واقتصادية واجتماعية تفاقمت كنتيجة طبيعية لترهّل وضعف البنى الإدارية والسياسية التي تقودها في ظلّ انعدام الوعي القومي واضمحلال الهوية القومية الحضارية الإنسانية وتشظيها إلى هويات كيانية ولاحقاً إلى هويات طائفية ومذهبية وعشائرية مشلّعة، وارتبطت أيضاً بطبيعة الحال بإرادات إقليمية ودولية تمتلك خططها وأجنداتها وروزنامتها وجملة من الأهداف السياسية والاقتصادية التي تندرج في سياق أحلام السيطرة والهيمنة وفرض الوقائع التي تتفق ومصالحها سواء في بلادنا أو الإقليم وبما يدعّم موقعها السياسي الاقتصادي ودائرة نفوذها حول العالم.
إذا كانت مرحلة العقود الثلاثة الماضية، قد اتّسمت بما يشبه الإقرار العالمي بغلبة «أميركية» لميزان دولي اختلّ جوهرياً بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وأدّى إلى أحادية صالت وجالت على مدى الكوكب، تنبيهاً لبقاً هنا، وتحذيراً شديد اللهجة هناك، تقليم أظافر في ذلك الإقليم، وتهديداً عنيفاً في إقليم آخر، وغزواً عسكرياً بربرياً في أمكنة أخرى من أفغانستان إلى العراق، غزواً ماحقاً للإنسان والحضارة والثقافة ولكلّ أسباب التمدّن فيها تحت شعارات الدمقرطة ومواجهة الإرهاب وغيرها من الشعارات الفارغة والعناوين الممجوجة.
إذا كانت المرحلة الماضية تحمل هذه العناوين كلّها، فالوقائع اليوم تغيّرت في عالم متغيّر ونامٍ، وفي ظلّ وقائع جديدة تصنعها أمم وشعوب تتوق للتحرّر والنهوض ورفض الهيمنة بأشكالها المختلفة، وفي ظلّ توقٍ حقيقيّ للمشاركة في إنتاج نظام عالمي متوازن يقوم على مبدأ الشراكة والتفاعل الإيجابي الفاعل والنامي وفق رؤية أخلاقية جديدة لا بدّ أن تشكّل القاعدة الأساس لفكرة الاستقرار العالمي.
لا شكّ في أنّ التهديد الأميركي والغربي والمحاولات المستمرة لفرض قيمه وهيمنته على الأنظمة السياسية في بلادنا ومنطقتنا والعالم، كلّ هذا ترافق ويترافق مع وقائع داخلية في هذه المجتمعات لم تكن في صالح شعوبها، وفي ظلّ أنظمة سياسية معطوبة في نظرتها إلى الإنسان ودور الدولة في رعاية مواطنيها وبعيدة كلّ البعد عن تعزيز مفهوم المواطنة والهوية وفصل الدين عن الدولة، بنى مهترئة تحتاج الى إعادة بناء وهيكلة وفق رؤى جديدة تنطلق من مصالح هذه الشعوب وحقها في الحياة الحرة الكريمة، وفي مساحات من حرية تحقّق فيها ذاتها وتنطلق في أوسع وأعمق عملية تنمية حقيقية تتناول جوانب حياتها كلها.
في مناخات كهذه، دخلت المنطقة بأسرها في أتون ما سُمّي «الربيع العربي» بشعاراته ومصطلحاته وعناوينه البراقة كلها. ربيعٌ كاذب مخادع ركب أحلام الشعوب في التطوّر والتقدّم والحرية وصادرها وحرفها عن أهدافها وصنع منها مادة مخططاته الجهنمية في التفتيت والتقسيم والشرذمة تحقيقاً للهيمنة الكاملة على مقدّراتها وثرواتها وطاقاتها كلّها، مما أدّى إلى هذه الكوارث والمآسي والانشطارات الهائلة كلّها التي طالت منها مجتمعنا الحصة الأكبر لكون أمتنا تقع في قلب الاستهداف وعلى خط التقاطع الواضح بين أحلام السيطرة الغربية الأميركية الاستعمارية الجديدة مع المشروع التوراتي – التلمودي العنصري الاستيطاني في بلادنا على امتداد ساحاتها من الفرات الى النيل.
هذا ما حصل في الشام في تلك الحرب الشعواء التي استهدفت الحجر والبشر ومعالم الحضارة فيها. وهذا ما حصل في العراق ولبنان، وإنْ بأشكال مختلفة، وفي فلسطين من خلال طروحات تصفية المسألة الفلسطينية.
ولعلّ التقاطعات اليوم مع الحدث الإيراني وما تشهده إيران من تظاهرات واضطرابات في «شتاء إيراني» تشبه تداعيات ما سمّي «الربيع العربي» مع اختلاف حجم الحراكات والظروف والمعطيات والسياقات، وتتشابه في الارتكاز على نقاط ضعف سياسية واقتصادية داخلية وعلى حاجة جدية لإصلاحات تشكل مطالب مشروعة، ولكنها توظف في مكان آخر، إضعافاً لموقع إيران كدولة نامية ترفض الهيمنة الأميركية والغربية وتسعى لفرض نفسها لاعباً على الساحتين الإقليمية والدولية، بما تملك من إنجازات علمية هائلة ونهضة صناعية تحققت في الآونة الأخيرة.
كلّ هذا يؤكد عمق وجدية التحديات المطروحة في السياسة والأمن والاقتصاد على مستوى المنطقة والإقليم ككلّ، وولوج هذه التحديات إلى عمق البنى الشعبية الاجتماعية القائمة فيها، بهدف تفخيخها وتفجيرها من الداخل تحت عناوين الإصلاح والحرية والديمقراطية وغيرها من الشعارات السطحية التي لا تعبّر عن مضامين حقيقية إنما تهدف إلى ضرب أيّ توجه لدى شعوب المنطقة الرافضة للهيمنة ومحاولات الإخضاع للخروج من دائرة الهيمنة الغربية والأميركية واستطراداً الصهيونية واستهداف أيّ توق للسير في عملية تنموية اقتصادية اجتماعية تطويرية وتحديثية على مستوى هذه الأمم المستهدفة وفي طليعتها أمتنا.
بيد أنّ ما يهمّنا هو تلك الوقائع من نوع آخر التي فرضت نفسها على كامل الجغرافيا القومية وتمثلت في الانتصارات الميدانية لقوى المقاومة في لبنان والشام والعراق والتي وإنْ تحققت بفضل قواها الذاتية بالدرجة الأولى، إلا أنّ تحالفاتها مع قوى إقليمية ودولية تتشارك وإياها الرؤى والمصالح في رفض الهيمنة الغربية وتقاطعاتها مع المشروع الصهيوني في فلسطين ومحيطها القومي، إذ إنّ هذه التحالفات ساهمت في تزخيم هذه الانتصارات الميدانية وتراكمها وكلّ هذا ترافق مع صعود قوى عالمية وتكتلات إقليمية اقتصادية وسياسية وأمنية من دول «بريكس» إلى أميركا اللاتينية والجنوبية إلى مناطق أخرى حول العالم شعرت بخطر العقل الإمبراطوري الأميركي وفي ممارساته حول العالم، مما أعاد الى واقع العلاقات «الدولية» بعض التوازن المفقود.
الخلاصة، أنّ الفرصة الآن مؤاتية لإعادة تقييم واقع الأمة وتقييم مواقع القوة والضعف فيها، وترسيخ وحدتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتصليب الوعي القومي المرتكز على الهوية القومية وإقامة تحالفات فوق قومية على قاعدة المصالح المشتركة والشراكة في الرؤية والنظرة الى واقع ومستقبل العلاقات الدولية حول العالم، والانطلاق في بلادنا نحو تثبيت مساحات من الاستقرار النسبي وتأمين أرضية المواجهة الحقيقية للمشروع الاستيطاني الصهيوني العنصري الذي يبقى في المدى المنظور أصل الصراع الحقيقي على مستوى الأمة بأسرها.
عميد الثقافة والفنون الجميلة
في الحزب السوري القومي الاجتماعي