الحرب الناعمة والمقايضة السورية الأخيرة
د. رائد المصري
بات واجباً على الجميع اليوم الانخراط في حرب جديدة بدأها ومنذ زمن المحتلّ «الإسرائيلي» وداعمه الأميركي وأدواته الداخليين في لبنان، بعد فقدانه زمام المبادرة وعنصر المفاجأة التي شكّل الإرهاب الإسلامي والتكفيري المتطرّف عمودها الصلب في تدمير بنى الدولة العربية عموماً، ولبنان على وجه الخصوص، وبعد أن عجزت جيوشه التكفيرية في حربها بالوكالة، انتقلت لتخوض غمارها بالأصالة عن الأدوات، وإليكم الأمثلة عن لبنان وسورية في هذا الإطار…
في لبنان تنكشّف كلّ يوم نغمة عمالة جديدة في الأوساط الفنية والمسرح والإخراج والأفلام الهوليوودية. ويبدو أنّ البعض في هذا البلد قد استمْرأ واستساغ المضْغ في علكة التطبيع وأنْسنة الصهاينة و«إسرائيل» من الجانب الحقوقي والإنساني، مع كثرة ممثّليهم وجمعياتهم، والمتسكّعين في أزقة شوارع الحمرا والمسْترزقين على أبواب السفارات الغربية والحالمين بالإقامة الدائمة في دول الغرب تيمّناً بالحرية والديمقراطية…
وعليه وجب إيجاد الحلول لهؤلاء سواء من حيث يدرون أو لا يدرون ولمّهم عن قارعة الطريق أولاً ومكافحة المروّجين والمطبّعين مع الكيان الصهيوني، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، من خلال إلقاء الحرم الوطني على كلّ من تساوره نفسه للترويج لمنتج «إسرائيلي» أو رأي صهيوني أو فيلم سخّر صاحبه أمواله لما يسمّى دولة «إسرائيل» لتقتل شعبنا وتفتك بنا كلّما أتيحت لها الفرصة.
والأمثلة كثيرة تُساق على ذلك، آخرها كان الكشف عن محاولة اغتيال مسؤول في حركة حماس بتفجيرٍ في مدينة صيدا جنوب لبنان والأصابع الصهيونية واضحة من دون أدنى شك أو ريب، لمن يريد تبْرئة الصهاينة عن أفعالهم الوحشية، لأنها أيضاً نغمة جديدة وعلكة أحبّها البعض بالابتعاد عن توجيه أصابع الاتّهام للعدو الصهيوني في كلّ عمليات الاغتيال التي نفّذها في سورية ولبنان وراح ضحيّتها الكثير من القادة الشهداء الأبطال.
وسيقف الشعب اللبناني من الآن فصاعداً بالمرصاد لكلّ محاولة تطبيعية لينفّذ حكمه خلف القضاء وخلف أجهزته الأمنية الساهرة، أو عبر الاعتصامات والتظاهرات أمام دور السينما والمسارح المطبّعة لمنعها من النشر وإفساد الأجيال الناشئة وتخفيض مناعتها الوطنية وقوّتها الذاتية والحقيقية في بناء الأوطان، وليس كمن يريده المطبّعون والانهزاميون والعملاء الذين يشعرون بالنقص الشخصي والذاتي وبانبهارهم أمام القوة الأميركية والغربية والصهيونية ليبرّروا عمالتهم وانهزامهم التاريخي…
وبالحديث عن بدء الحرب بالوكالة وانتقالها للأصيل بدلاً من الوكيل في سورية، يبدو أنّها المقايضة الأخيرة لما يجري على ساحة هذا البلد الصامد منذ سبع سنوات، إذ أدركت الولايات المتحدة أنّها باتت عاجزة عن امتلاك أيّ أوراق تعيق وتفتّت وتدمّر بنى وأوصال الدولة السورية، فقرّرت الاستمرار قدر الإمكان في استنزاف محور المقاومة والإعلان عن إقامة قواعد عسكرية ثابتة شرق الفرات ودعم «قوات سورية الديمقراطية» كفصيل مسلّح في وجه الجيش السوري، في محاولة لتكريس واقع تقسيمي وإقامة حزام الدولة الكردية في شمال وشرق سورية، وذلك تأديباً للدولة السورية وحلفائها ولتركيا بعد شقّها عصا الطاعة الأميركية.
أمام هذا الواقع ومؤتمر سوتشي على الأبواب وبالاتفاق مع الأتراك الذين أصابتهم فوبيا الدولة الكردية وحزامها المسلح على الحدود، تمّ الاتفاق مع الروسي بالبدء في عملية عسكرية تركية في منطقة عفرين مقابل غضّ الطرْف التركي عن إتمام مهمة محور المقاومة في إدلب وتطهيرها من النصرة وتوابعها، وتيسيراً لعملية سوتشي في الحلّ السياسي التي قبل بها الأتراك شريطة أن يضرب «قوات سورية الديمقراطية» في محاولة لتحقيق إنجاز تركي داخلي يحفظ ماء الوجه ولا يخرج أردوغان خالي الوفاض من معاركه، وبدلاً من أن يواجه الجيش السوري وحلفاؤه القوات المسلحة الكردية لكونها من أبناء سورية وتربطهم علاقات جيدة مع الروس. فيكون الحاصل النهائي ربحاً صافياً للدولة السورية ولحلفائها: بمنع إقامة حزام كردي وفق الإرادة الأميركية التقسيمية، وتعطي للأتراك ربحاً ومكسباً من جيبهم في مواجهة المسلحين الأكراد ووأْد مشروعهم. وهي مصلحة سورية بالدرجة الأولى، وكذلك الانتهاء عملياً من تنظيم القاعدة أو النصرة في إدلب وعودتها الى حضن الدولة، ومن ثم أخيراً نجاح مؤتمر سوتشي عبر التنسيق الإيراني الروسي التركي وضمّه لكلّ الفصائل المسلحة التي قبلت بالحلّ السياسي، ومنها «الجيش الحر» الذي يشكّل العنوان الأساس في عملية «غصن الزيتون» الجارية في شمال سورية وعفرين من قبل الأتراك…
إذن انتقل المستعمر عملياً من أدوات التوظيف في الاستخدام ليدخل مباشرة في صراع وتصفيات بين حلفائه، نشهد آخر فصولها العسكرية في سورية وبداية عودتها بالحرب الناعمة واستخدام أدوات التطبيع والعمالة في كلّ يوم بحلة جديدة ولباس ناعم…
أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية