الصراع على تركيا
زياد حافظ
سئلنا في بداية الأسبوع الحالي في حوار نقاشي على إحدى المحطّات التلفزيونية العربية حول المعارك الدائرة في شمال سورية، ما إذا كانت روسيا قد أجرت تنسيقاً مع الحكومة التركية قبل التدخّل التركي. لم تكن عندئذ قد نشرت المعلومات حول الموضوع ولكن أفدنا أنه من الضرورة النظرة إلى المشهد من منظور استراتيجي وجيوسياسي. «التنسيق» الذي اتضح في ما بعد بين تركيا وروسيا وحتى الجمهورية الإسلامية في إيران هدفه في الحد الأقصى تصعيد المجابهة بين تركيا والولايات المتحدة التي ستؤدّي عاجلاً أم آجلاً إلى خروج تركيا من الحلف الأطلسي. هذه قد تكون الجائزة الكبرى في «اللعبة الكبيرة» الجديدة حول السيطرة النهائية الروسية على البحر الأسود وكسر احتكار السيطرة الأميركية في حوض البحر الأبيض المتوسط. أما «جائزة الترضية» فهي تسريع حرق ما تبقّى من أوراق أميركية في المنطقة كان من المفروض أن تؤمّن الحضور السياسي الأميركي في المنطقة. فبعد الانتهاء من حرق الورقة الكردية لن يعود بالإمكان للولايات المتحدة إلاّ الخروج الموقت وقد يكون نهائياً من المشرق أو المغامرة غير المحسوبة في إشعال حرب شاملة. ففي كلتا الحالتين هناك خسارة مؤكّدة للولايات المتحدة بغض النظر عمّا ستسفر عنه المعارك التركية الكردية في شمال سورية. هذا كان مختصر مداخلتنا حول الموضوع.
تفيد المعلومات أن صراعاً داخل الإدارة الأميركية وحتى داخل أروقة البنتاغون بين «الواقعيين» الذين لا يريدون خروج تركيا من كنف الأطلسي، وبين المحافظين الجدد الذين عادوا إلى التحكّم داخل البيت الأبيض والخارجية الأميركية والبنتاغون. فالآخرون يدعمون الأكراد مهما كلّف الأمر، لأن الدويلة الكردية التي يحاولون إنشاءها ستعود بفوائد استراتيجية أكبر للولايات المتحدة وللكيان الصهيوني، وإن كان على حساب خسارة قاعدة انجرليك في تركيا بخروج تركيا من الكنف الأميركي والأطلسي. هذا ما نشره موقع «قمر الاباما» المشهور والواسع الاطلاع والدقيق في التحليل والتعليق على خفايا الأمور داخل أروقة الحكم الأميركية. من جهة أخرى غرّد ريشارد هاس رئيس مجلس العلاقات الخارجية والمعروف بتعاطفه الكبير مع الكيان الصهيوني أن واجباً أخلاقياً واستراتيجياً يقع على عاتق الولايات المتحدة لدعم الأكراد في شمال سورية وإن كان سيؤدّي ذلك إلى «خسارة» تركيا التي يعتبرها «حتمية»! وتفيد صحيفة «نيويورك تايمز» أن البيت الأبيض، هنا نفهم رئيس مجلس الأمن القومي هربرت مكماستر، لا يحبّذ إقامة دويلة كردية وغير متحمّس على تسليح الأكراد. بالمقابل هناك وزارة الدفاع على لسان وزيرها الذي يدفع بقوة إلى تسليح قوة قوامها 30 ألف عنصر معظمهم من الأكراد وبعتاد نوعي عالٍ. فحالة التخبّط والإرباك هي سيّدة الموقف في أروقة الحكم في الولايات المتحدة ما يزيد البلبلة حول ما يمكن أن تُقدم عليه الإدارة الأميركية. فما كرّرناه مراراً بالتحليل نجد دلائل مادية تؤكّده.
تركيا على مفترق طرق. الشعب التركي يؤيّد أردوغان في عمليته العسكرية في شمال سورية. فالدويلة الكردية قد تشكّل خطراً وجودياً بالنسبة لتركيا. بالمقابل كانت كل من إيران وروسيا تملكان من البصيرة في استمالة تركيا لربطها استراتيجياً بهما، وذلك عبر إغراءات اقتصادية لم تستطع الولايات المتحدة ولا الاتحاد الاوروبي عرضها على تركيا. حجم التجارة الخارجية الاجمالية التركية قبل الصفقات التي عقدت مع كل من روسيا وإيران بحدود 300 مليار دولار. العرض الروسي والإيراني هو 100 مليار دولار لكل منهما أي بمثابة ثلثي حجم التجارة الخارجية الحالية. وعند تحقيق التبادل التجاري سيصبح إجمالى التجارة الخارجية التركية يوازي تقريباً 500 مليار دولار يكون لروسيا وإيران ما يوازي 40 في المئة من التجارة الخارجية التركية. كما لا يجب أن ننسى أن تركيا بحاجة أساسية للغاز الروسي والإيراني. وإذا ما اضفنا الوعود بالمشاركة في استثمارات في تركية وفتح مجال للاستثمارات التركية في كل من روسيا وإيران فتصبح العلاقة الاستراتيجية مؤسّسة على مصالح استراتيجية متبادلة مع مردود اقتصادي لا يُستهان به لم تستطع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي توفيره لتركيا. فالربط الاقتصادي لن يكون بمعزل عن الربط السياسي، فالاقتصاد ليس إلاّ السياسة ولكن بلغة الأرقام. فالتحوّل الاستراتيجي ترافقه مراجعة سياسية للتحالفات.
أما في تركيا فمسار المراجعة السياسية قد بدأ وإن بشكل متواضع. فالرسالة الخطّية التي أرسلت إلى الدولة السورية وفقاً لتصريح أحد المسؤولين الأتراك قد تكون بداية. كما أن ما صدر عن عدد من الصحف التركية حول ضرورة التفاهم مع حكومة دمشق مؤشر آخر. وهناك أيضاً تصريحات لعدد من القيادات العسكرية والأمنية التركية في الاتجاه نفسه. لم يكن لتظهر تلك المواقف لولا «الإيعاز» من الحكومة التركية بذلك. ونضيف أن الروس حريصون على مراعاة الهواجس التركية في محادثات سوتشي المقبلة عبر تجاوز دعوة الأحزاب الكردية المعارضة لتركيا والساعية إلى إقامة دويلة كردية في شمال سورية، وذلك عبر دعوة «شخصيات» كردية تشارك في العملية السياسية في سورية. لذلك نرى من المفيد التشجيع ودعم مسار المراجعة السياسية في تركيا التي نتمنّى استمرارها.
تحاول بعض الجهات الأميركية «الواقعية» كوزير الخارجية الأميركي تيلرسون استرضاء تركيا عبر عرض «منطقة آمنة» في شمال سورية، أي منزوعة من السلاح لتعود الناطقة باسم الخارجية الأميركية اتهام تركيا «بزعزعة الاستقرار» في شمال سورية! فالثقة مفقودة بين الطرفين والمعلومات تفيد أن العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة متوتّرة للغاية، كما دلّت التصريحات المتناقضة حول فحوى المكالمة الهاتفية بين أردغان وترامب. فبعض المصادر داخل البيت الأبيض سرّبت أن الرئيس الأميركي كان قاسياً جدّاً مع أردغان، بينما مصادر الخارجية التركية نفت ذلك شكلاً ومضموناً، واعتبرت أن التسريب هو لنص سبق المكالمة. والملفّات الخلافية بين تركيا والولايات المتحدة عديدة وجادّة. فتركيا تطلب تسليم فتح الله غولين الذي تتهمه تركيا بمسؤولية محاولة الانقلاب الفاشلة، كما أن موقف ترامب من القدس أحرج كثيراً الرئيس التركي الذي يطمع في تزعّم العالم الإسلامي بعد الموقف الفاتر لحكومة الرياض من المسألة.
بالمقابل هناك مَن يدّعي أن تركيا تحلم بضم شمال سورية إلى ما تعتبره تركيا الكبرى، حسب بعض المواقع الأميركية. هذا يعني أنها ستصطدم بكل من روسيا وإيران وقد يكون لذلك عواقب وخيمة على مستقبل تركيا التي إذا ما أقدمت على تلك الخطوة، والتي نشكّ في أنها واقعية أو جادّة، على توحيد القوى المختلفة ضد تركيا بدءا من الولايات المتحدة ووصولاً إلى إيران وروسيا. هذا يعني الغرق في حرب طويلة المدى مع سورية واستنزاف القوة الأكبر بعد الولايات المتحدة للحلف الأطلسي في معركة خاسرة. لذلك نستبعد ذلك الاحتمال وإن كان الرئيس التركي أبدى قابلية متكرّرة على التقلّبات الاستراتيجية.
الإرباك الأميركي في مقاربة الملف التركي بشكل عام والمشهد السوري بشكل خاص، هو دليل آخر على التراجع إن لم يكن الأفول الاستراتيجي للولايات المتحدة. يشير موقع «قمر الاباما» أن التهم بدأت تتلاشق حول من «خسر تركيا» أسوة بالتهم التي ألقيت في حقبة سابقة حول مَن «خسر الصين» في أواخر الأربعينيات من القرن الماضي. الإرباك يعود إلى فقدان استراتيجية واضحة في الملفات كافة. الرغبات والأهداف التي يحاول فرضها المحافظون الجدد ليست استراتيجيات بل فقط رغبات تفتقد إلى عناصر التنفيذ. المحافظون الجدد ما زالوا يراهنون على القدرات العسكرية الأميركية ويخلطون بين القدرات التدميرية الموجودة فعلياً والقدرات على إنجاز انتصارات في المعارك. فالولايات المتحدة لم تربح حرباً بعد الحرب العالمية الثانية. وإذا اعتبر المحافظون الجدد أن احتلال العراق انتصاراً، فلماذا خرجت الولايات المتحدة التي كانت تريد البقاء خمسين سنة؟ ولماذا لم تحسم المعركة في أفغانستان وهي الآن غارقة فيها بعد 17 سنة؟ كما أن الكلفة الباهظة المالية والسياسية لم تستطع تعويضها حتى الآن وهي فاقت 4 تريليونات دولار؟
السياسة الدفاعية التي أعلنها وزير الدفاع ماتيس أوضحت أنه من الضروري إعادة تأهيل القدرات العسكرية لمواجهة ما سمّاه بالعداء الصيني والروسي. وتأتي هذه السياسة بعد سنة من الحقائق التي أوردها القادة العسكريون الأميركيون في جلسات استماع للكونغرس في شباط/فبراير 2017 حيث عرضوا الضعف الموضوعي في القدرات والتأهيل. ونضيف هنا أن قسماً كبيراً من الأسطول الأميركي معطّل ولا يستطيع التحرّك في مهام واسعة خارج خليج المكسيك، أي قرب الشواطئ الجنوبية الأميركية. كما نذكر حوادث الاصطدام لقطع بحرية في المحيط الهادي التي كشفت مدى عدم الكفاءة التدريبية وقلّة القدرات البشرية ورداءة القيادات العسكرية. فالانتصارات العسكرية الفعلية نجدها فقط في المسلسلات التلفزيونية التي تعمّ محطات التلفزيون الأميركية! فرهانات المحافظين الجدد رهانات خاسرة منذ البداية ما يدّل على أنهم لم يتعلمّوا من الدروس الماضية. فإخفاقات القوة الأميركية يعالجونها بالمزيد من القوّة المتلاشية والتي ستؤدّي إلى إخفاقات أكبر تسرّع في الأفول النهائي للولايات المتحدة على صعيد السياسة الخارجية.
أمين عام المؤتمر القومي العربي