«إسرائيل» بين التوقيت السوري والتوقيت اللبناني
ناصر قنديل
– من شرفة قصر بعبدا يطلّ لبنان للمرة الأولى على ملفي الجدار الإسمنتي «الإسرائيلي» المخالف لمفهوم الخط الأزرق الحدودي الوهمي ونقاط التحفّظ اللبنانية المسجّلة، والبلوك التاسع النفطي في مياه لبنان الجنوبية، معلناً بلسان الدولة اللبنانية للمرة الأولى الاستعداد للمواجهة العسكرية وعدم الاكتفاء بمخاطبة الأمم المتحدة والشكوى، إذا مضت «إسرائيل» بفرض أمر واقع من طرف واحد. وفي المقابل تطلّ سورية من جبهتي إدلب وعفرين، حيث يتقدّم الجيش السوري محرّراً في واحدة ويقترب من إنهاء الحرب على الإرهاب، وفي الثانية تدور الحرب غير المباشرة التي تخوضها الدولة السورية مع مشروع الانفصال الكردي والاحتلالين التركي والأميركي، ومن دمشق ومعارك الغوطة حيث يتجلى مشروع الحسم العسكري بوضوح هذه المرّة، ومع كلّ ذلك التصدي للصواريخ «الإسرائيلية» التي أطلقتها «إسرائيل» على مواقع سورية من الأجواء اللبنانية، فيرسم الجيش السوري قواعد الاشتباك في سلّم متصاعد يبطل محاولات «إسرائيل» التملّص من المتغيّرات التي فرضتها استعادة الدولة السورية لزمام المبادرة منذ انتصارها في حلب.
– بعض الذين يأخذهم الانفعال والحماس والغيرة الوطنية والقومية يرغبون برؤية الجيش السوري والمقاومة، يدخلان الحرب فوراً، يبدآن حرب مقاومة ضدّ احتلال همجي موصوف هو الاحتلال التركي في سورية، وحرباً أخرى ضدّ الاحتلال الأشدّ خطورة على مستقبل سورية وسيادتها هو الاحتلال الأميركي، وضدّ عدوان إسرائيلي يستهدف السيادة السورية، وضدّ مشروع الانفصال الكردي، والكانتون الحدودي الذي ينشئه الأتراك وراء جماعات مرتزقة تحت إمرتهم بأسماء سورية، ويريدون أن تبدأ المقاومة في لبنان بفتح النار على الجيش «الإسرائيلي»، سواء في نقاط البرّ التي يتخطى فيها الضوابط القانونية، وفي نقاط البحر التي يمارس البلطجة لوضعها تحت سيطرته أو حرمان لبنان من استثمارها على الأقلّ.
– معادلة الحرب لا تخاض طبعاً بهذه الطريقة. فالحق وثبوت وضوحه يمنحان المشروعية، لكن التوقيت والسياق والتصاعد في سلم المواجهة خيارات وخطوات تدرس وتحدّد وفقاً لمعادلات علمية تتصل بالقدرة على توزيع الموارد وتخصيصها وقراءة موازين القوة السياسية والعسكرية، والمناخات الدولية والإقليمية وعلاقتها بمنح فرص التوقيت المناسب فالأنسب، وللذين يقولون إنّ هذا التشريح تبرير للتخلي والضعف والتراجع، يجب القول، إنّ الحرب التي عرفتها سورية وخاضتها بجيشها ومعها المقاومة ومن ورائهما إيران وروسيا تقدّم خطاً بيانياً، يُسكت كلّ اتهام بالضعف والتراجع والتهرّب من المواجهة. فما تحقق خلال سنوات وكان عرضة للتشكيك قبلها، يثبت أنّ هناك قيادة عازمة على النصر وحازمة في رسم الخطط وتحديد القواعد وصعود سلّم المواجهة بخطتها وتوقيتها، وها هي الخطوط الحمر التي رسمها الأميركيون على الحدود السورية العراقية تتساقط، وها هي حلب عادت ودير الزور والبوكمال والبادية. وفي الحرب التي تشكّل أميركا و«إسرائيل» والسعودية وتركيا ومعها جميعاً تنظيما القاعدة وداعش حلفها، تقول السنوات التي مضت كيف انتقل زمام المبادرة لليد السورية مدعومة من حلفائها، وكيف توسّعت سيطرة الدولة السورية من ثلاثين في المئة إلى ثمانين في المئة من الجغرافيا السورية. وهذا يستدعي التسليم بأهلية وصدقية قيادة سورية ومحور المقاومة، ومنحها التفويض لمواصلة حربها وفقاً لخطتها وتوقيتها. وكم من مرة بُني على عدم الاستجابة للرغبة بتسريع روزنامة الحسم استنتاج ظالم بالضعف والتخاذل، إن لم يكن لسورية فلحلفائها بالتتابع، مرة المقاومة ومرة إيران ومرات روسيا، وجاءت الأيام تثبت بطلان هذه الاستنتاجات.
– نجحت سورية والمقاومة بوضع الأميركيين والأكراد في ضفة والأتراك وجماعاتهم في ضفة، وهما من رصيد وظف كلّ مقدراته ضدّهما، وها هم يستنزفون مقدرات بعضهم بعضاً في طريق مسدود لحرب لا منتصر فيها، ستؤول حالة الاستنزاف التي بدأت معها، لجعل الملاذ الوحيد لوقفها بالتراجع أمام مشروع الدولة السورية بالتراضي أو بالقوة، ولن تخضع سورية لتوقيت مستعجل يفهم سببه بالعاطفة، لتسريع تدخلها، بينما هي تدرك أنّ توقيتها لم يحِن بعد، وأنها ترسم قواعد اشتباك هناك وخطوطاً حمراً كلما بدا أنّ الموازين ستنقلب لصالح الاحتلال التركي، لكنها تطلب وضوحاً كردياً حاسماً في الموقف من الانفصال والاحتلال الأميركي لتضع عباءتها فوقهم كدولة وطنية تصدّ عدواناً على سيادتها، ولا تخوض حرب ترجيح كفّة احتلال على احتلال.
– في المواجهة مع «إسرائيل» فرضت سورية على «الإسرائيليين» التسليم بالامتناع كلياً عن انتهاك الأجواء السورية وتقليص مساحة الإرباك التي كان يفرضها الطيران «الإسرائيلي»، من كامل المساحة السورية إلى الشريط الحدودي الملاصق للمناطق المحتلة وللحدود اللبنانية، بعمق ستين كليومتراً، وهو مدى الصواريخ التي تطلقها الطائرات من خارج الأجواء السورية، وبعد هذا الإنجاز النوعي بدأت سورية تفرض معادلة نصف الردع، بإبطال مفاعيل الصواريخ واختبار قدرة التعامل معها وإسقاطها. وهذا تطوّر تقني وعملياتي يعرف «الإسرائيليون» معناه في أيّ حرب قادمة. لكن هذا التعديل الإضافي في المواجهة ليس نهاية المطاف. إنه الخطوة التي تسبق توضيع جدار دفاع جوّي يتيح استهداف الطائرات «الإسرائيلية» المغيرة وهي في الأجواء اللبنانية، وهو تطوّر لن يكون بعيداً، كما يقول سياق تنامي وتصاعد الخطة السورية التي تمنح الأولوية للحسم مع الجماعات الإرهابية في الغوطة ومحافظة إدلب، لمرحلة لن تتجاوز الشهور.
– بالتوازي مع التوقيت السوري ثمة توقيت لبناني، لا شك في أنه يفاجئ «الإسرائيليين» والأميركيين ومَن معهم، فالتحرّشات «الإسرائيلية» البرية والبحرية تقع في مجال سياسي واستراتيجي يمنح لبنان فرصة التلويح بالمبادرة لاستخدام القوة. وهذا معنى قرار المجلس الأعلى للدفاع المنعقد في قصر بعبدا تتويجاً لتفاهم سياسي بين الرؤساء الثلاثة وقفت المقاومة وسيدها وراء نسج خيوطه. والمهمّ فيه أنه إثبات لصدقية تموضع رئيس الجمهورية في خيار المقاومة، لكنه أيضاً تظهير لنوعية التحوّل الذي ترتب على أزمة العلاقة بين رئيس الحكومة والسعودية، وحسن التدبّر في إدارة هذه الأزمة لبنانياً، خصوصاً من المقاومة ورئاستي الجمهورية ومجلس النواب. فالتوقيت اللبناني لرفع درجة الحرارة براً وبحراً، ما كان ممكناً لولا هذا الموقف الحاسم لرئيس الجمهورية، ولولا هذا التبدّل الموضعي غير الممانع والمعطّل لرئيس الحكومة.
– الحروب فنّ التوقيت، وعلى «إسرائيل» أن تدرك أنها تضع نفسها في وضع لا تُحسَد عليه. فالمواجهة مع لبنان خطأ استراتيجي خطير لا تقدر «إسرائيل» على تحمّل نتائجه السياسية والعسكرية. فللمرة الأولى سيكون عليها تجرّع سمّ التراجع أو المضيّ لحرب قاتلة.