مشهد الغوطة
ناصر قنديل
– شكّل التساؤل عن طبيعة العلاقة بين الدولة السورية وسكان الغوطة القضية الرئيسية في صناعة الحسابات الدبلوماسية والسياسية للقوى الدولية والإقليمية من معارك الغوطة، حيث كان الغرب ومعه كثير من المحلّلين القريبين من محور المقاومة وبعض مناصري الدولة السورية المتحمّسين داخل سورية نفسها، على قناعة مطلقة بأنّ سكان الغوطة ليسوا أكثر من نسخة مدنية عن مسلّحيها وأنهم الحماية السياسية اللازمة لصمود المسلحين، ولذلك فإنّ السلاح الدبلوماسي يجب أن يدخل من هذا الباب.
– تدبير وفبركة استخدام السلاح الكيميائي كانت وظيفتهما تزخيم السلاح الدبلوماسي المستند لرفع شعار حماية المدنيين، إذا تعذّرت ضربة موجعة تحت هذه الذريعة تغيّر التوازنات، انطلاقاً من هذه الثقة بأنّ السكان في الغوطة سيوفّرون أرضية عدائهم للدولة السورية بصورة تجعل أيّ حلّ تحت عنوان حماية المدنيين متوقفاً على وقف إطلاق النار بصورة كلية، بما يحبط كلّ التصوّرات التي تقدّمها سورية وروسيا لصوغ وقف نار جزئي يرتبط بالفصل بين المسلحين والسكان، فاتحاً الباب لأسبقية خروج أيّ من الفريقين، المسلحين بالتفاوض، والأهالي بالنداءات، والتعطيل متاح هنا بسياقين متلازمين، مسلّحون يرفضون التفاوض، وسكان يديرون ظهرهم للنداءات، وتشكل أرقام الضحايا التي يقدّمونها، مع التضخيم الإعلامي سبباً كافياً لخلق مناخين متلازمين معاكسين، مزيد من الصمود العسكري من جهة، ومزيد من الضغوط لفرض وقف النار من جهة أخرى.
– كلما كانت الدولة السورية تعلن عن فتح ممرات آمنة لخروج المدنيين كان الغرب والخليج ومعه كثيرون يسخرون من ذلك، باعتبار أنّ أحداً لن يخرج، ليس فقط لأنّ المسلحين سيتكفّلون بالمنع. وهو أمر لن يبقى بالفعالية ذاتها كلما ضاق الخناق وارتفع منسوب الخطر، فالرهان الرئيس هو أنّ الناس سيفضلون ربط مصيرهم بمصير المسلحين على الخروج إلى مناطق سيطرة الدولة السورية، خصوصاً أنّ الانطباع عن طبيعة علاقة أغلبية السكان بالجماعات المسلحة التي ينتمي أغلبها لتشكيلات من أبناء المنطقة قادة وكوادر، وخشية هذه الأغلبية ومعها مَن ليسوا مع الجماعات المسلحة من معاملة تنتظرهم عندما يقرّرون الخروج، ساهمت الجماعات المسلحة بجعلها صورة مرعبة أكثر من البقاء تحت الخطر. ومع خروج الدفعة الأولى من المدنيين، خرج قادة الائتلاف وهيئة التفاوض وقادة المسلحين يقولون علناً إنّ الذين خرجوا قد تمّ اعتقالهم وقتل بعضهم. وتبرّعوا بالقول إنهم عائلات لمسلحين يقاتلون في الداخل وسيعاقبون حتماً، في ما بدا تحريضاً للبيئة المؤيّدة للدولة لرفض كلّ دعوة لمعاملة سكان الغوطة الخارجين إليهم بروح انتقامية.
– أهمّ ما في معارك الغوطة هو أنّ الدولة السورية نجحت في كيفية تلقيها خروج المئات الأولى من سكان الغوطة بالرعاية الصحية والسكنية والغذائية، وتقديمهم مثالاً لباقي السكان إذا قرّروا الخروج، إضافة لحملة دعوات تشجيعية مفصّلة عما ينتظر هؤلاء من حُسن رعاية واهتمام. وقامت مؤسسات إعلامية سورية بحملات على الهواء مع مواطنين سوريين في كلّ مناطق سورية يعلنون التبرّع بأجزاء من منازلهم لاستضافة نازحي الغوطة. وها هو العدد يفوق الخمسين ألفاً ويتحوّل مساراً سيتكفّل بإسقاط الاستثمار الخبيث لعنوان المدنيين في الغوطة مع الحلقات الأخيرة من المعارك. فكرةُ الثلج تكبر يومياً، ما سيوصل الأوضاع لمرحلة يكون فيها على الجماعات المسلحة أن تواجه حلقات الحرب القاسية من دون غطاء المدنيين، وعلى داعميهم أن يعترفوا بإفلاس حملاتهم لوقف النار وحماية المسلحين بغطاء مدني، أو سيكون عليهم معاً البحث بتسوية ترضاها الدولة السورية وتشبه ما جرى في الأحياء الشرقية في حلب.