ما دلالات سقوط «مدينة» عفرين؟
د. وفيق إبراهيم
ليس طبيعياً أن تقاوم سهول منطقة عفرين وأريافها الجيش التركي الغازي ومعه حلفاؤه من الأخوان المسلمين السوريين والتركمان، نحو شهرين متواصلين، وتسقط عاصمتها «مدينة عفرين» من دون قتال.. وهي المحصّنة بالخنادق والأبنية والأسلحة المتطوّرة وعشرات آلاف المقاتلين من الكرد المحليين ومنظمة قسد والمتطوّعين.
أهو إسقاط سياسي؟ ومَن هي القوة التي تستطيع تسليم عفرين للأتراك، على هذا النحو الذي يُخفي اتفاقات بين القوى الأكبر التي تمون على طرفي القتال؟
ما يؤسَفُ له أنّ «قسد» قوات سورية الديمقراطية الكردية المنضوية في إطار الدور الأميركي في سورية تركت وراءها بياناً «هزلياً» يتوعَّد الأتراك بحرب شعبية طويلة الأمد.. لم يُعِرهُ الأتراك أدنى اهتمام، مؤكدين أنهم ذاهبون لتحرير منبج والقامشلي حتى الحدود السورية ـ العراقية شرقياً ومناطق الحدود السورية ـ التركية، جنوباً.. مخترقين أيضاً حدودهم مع كردستان العراق، حيث أسّسوا عشرات القواعد والمراكز وسط ذهول المراقبين الذين لم يستوعبوا ماذا يجري.
هناك إذاً استباحة تركية لمنطقتين كرديتين تتبعان بلدين عربيين هما سورية والعراق ويصادف أنهما تخضعان للرعاية الأميركية الكاملة.. وتنتمي قواهما الكردية الحزبية المقاتلة إلى الآليات التي تعتمدها السياسة الأميركية منذ 1990 بالنسبة إلى كردستان و2014 بالنسبة إلى عفرين وشرق الفرات. فكيف تجرؤ «أنقرة أردوغان» الاخواني على اختراق مناطق النفوذ الأميركي من دون صدور الأذن من صاحب الإذن الأميركي وليس صاحب السيادة على الأرض السورية ـ العراقية أو المسيطر عليها؟
وهذا يكشف أنّ الدخول التركي إلى أراضٍ سورية وعراقية، ينتمي قسم من أهاليهما إلى الكرد.. إنّما هو عمل ينتمي إلى «لعبة الأمم التي تفتك بالعالم العربي منذ قرنين ونيّف. ولا تعكس فقط رجحان القوة التركية على القوة الكردية والعربية معاً.
ويبدو أنّ هناك شيئاً ما حدث على مستوى العلاقات الأميركية ـ التركية، في مرحلة المعارك الشرسة في «سهول عفرين» وهضابها بين الأميركيين والترك، أفضى إلى الإجازة الأميركية للأتراك بالسيطرة على مدينة عفرين وبعض أنحاء شمال العراق في كردستان، وسط صمت روسي واضح ومواقف إيرانية خجولة وتلعثُم عراقي غامض، لم يفهم منه أحد، ما هو موقف حكومة بغداد.. أما الأميركيون فدعوا الأتراك إلى الرأفة بالمدنيين وتجنّب سفك الدماء.. وحدها الدولة السورية كانت واضحة برفضها الصريح لما أسمته غزواً تركياً واحتلالاً لشمال سورية، أكدت أنّ تحريره لم يعُد بعيداً، وعودته إلى إطار الدولة السورية مسألة من «الأساسيات المقدسة» بالنسبة إلى الدولة السورية وجيشها اللذين يطبّقان معارك أوليّات تدريجية لاستعادة الأجزاء المحتلة من الإرهاب والأميركيين والأتراك.
ماذا عن الدواعي التي أفضت إلى هذه التقاطعات؟ تبيّن للأميركيين أنّ «الجنون التركي» الذي نتج من سياسات الإمساك الأميركي الكامل بالقوى الكردية، على المستويات العسكرية والسياسية والجيوبولتيكية… ذاهب نحو «التمرّد الشرس» على اتجاهات واشنطن في سورية والعراق.. والأسباب واضحة ومتجسّدة في خطر الأكراد الاستراتيجي على الكيان السياسي التركي. فتكفي ولادة كانتون كردي شرق سورية حتى ينشق كانتون كردي فيه عشرون مليون نسمة شرق تركيا. ما يؤدي إلى انفجار تركيا التاريخية إلى ثلاث دويلات عرقية ومذهبية وذلك في إطار المشروع الأميركي لتفتيت المنطقة بكاملها.
لمزيد من التوضيح، يجب تأكيد أن أنقرة استشعرت الخطر الأميركي عليها منذ المحاولة الانقلابية التي كادت أن تطيح بأردوغان.. وهذا الأخير اتّهم الأميركيين بإعدادها. فاعتقد الأتراك بإمكانية تهدئة الجموح الأميركي بالاحتماء بالطموح الروسي، والحاجة الإيرانية إلى اعتدال تركي منزوعة منه عثمانيتهُ. ونجحوا في ذلك نسبياً، وأرسوا بذلك سلسلة تفاهمات مع الروس، أعطتهم هامشاً نسبياً في حركتهم العسكرية ضد الكرد المتوهّمين بإمكانية تحقيق دولة لهم من خلال السياسة الأميركية.
ما يمكن استنتاجه، يكشف أن واشنطن لم تتمكّن من إقناع أنقرة بالحياد أمام انطلاقة المشروع الكردي بجناحه السوري، الذاهب في حال نجاحه إلى تقسيم فعلي للبلاد.. وهذا ليس حباً تركياً بسورية وإنما يندرج في إطار الدفاع المسبق عن الكيان السياسي التركي.
وخوفاً من إمكانية الخسارة الأميركية الكاملة لتركيا الأطلسية التي كان «الناتو» يستعملها كخط دفاع أمامي له قبالة الاتحاد السوفياتي في البحر الأسود والشرق الأوسط. والتي لا تزال تتمتع بدور في مواجهة روسيا، حتى اليوم.. هذا الخوف حضَّ الأميركيين على التفكير بإيجاد حل يوازن بين حاجتهم للكرد في مشروعهم الحديث وبين حرصهم على دور تركيا قبالة روسيا وليس في المشرق العربي.
لقد توصّل المخطّطون الاستراتيجيون في واشنطن أن بالإمكان الموازنة في العلاقات بين هموم أنقرة وحلم الأكراد.. بشكل لا يُعيد إنتاج دولة عثمانية أو فدرالية إخوان مسلمين.. ولا يرمي بتركيا فريسة للدهاء الروسي و«تحالفات» إيران.. فتفتحت عبقريّتهم عن حل يسمح لتركيا بإجهاض أي إمكانية لانتقال المشروع الكردي من سورية والعراق إلى أراضيها، وذلك بالعودة إلى فكرة «الولايات الحاجزة».. أي منع الربط الجغرافي بين أجزاء المشروع الواحد أو الفصل بين قوى متقاتلة، وذلك ببناء أقاليم محايدة.. لذلك جرى استيلاد بلجيكا كدولة حاجزة بين دولتين أوروبيتين متقاتلين تاريخياً هما ألمانيا وفرنسا.. وجرى أيضاً خلق الأردن كدولة حاجزة بين بلاد الشام وشبه جزيرة العرب، ولاحقاً بين الكيان الإسرائيلي وشبه جزيرة العرب والعراق..
هكذا تُجرى الأمور في لعبة الأمم، حيث توضع الجغرافيا السياسية في خدمة التسويات الكبرى على أساس إقصاء الطموح القومي وتدميره.. والكرد هم الضحايا الدائمون للعبة الأمم.. إلى جانب العرب أيضاً.
عفرين إذاً، هي المخرج الأميركي للمحافظة على الحد الأدنى من صداقتهم مع الأتراك وهي أيضاً الحدّ الأقصى الذي تستطيع فيه موسكو جذب الأتراك إليها.. أو تشجيعهم على الأقل للخروج من عباءة الناتو والأميركيين.. والروس بعقلهم الجيوبولتيكي في الوقت الحاضر، يعرفون أنّ «عفرين» كانت مع الكرد المتآمرين في إطار المشروع وانتقلت إلى «الترك» الذين لا يختلفون عنهم كثيراً. بمعنى أن الدولة السورية لم تخسر شيئاً من المناطق الموالية لها.. وهي تتحضّر لتحرير عفرين من الذين يحتلونها من قوات «قسد» الكردو ـ أميركية، قبل شهرين، ولاحقاً من القوات التركو ـ أميركية، التي تسيطر عليها الآن. لذلك فإن المشروع السوري للتحرير واحد ومقدّس عند دمشق. وللتذكير فإن قوات «قسد» رفضت دخول الدولة السورية إلى عفرين قبل شهرين وفضّلت الاستسلام للتركي.
فهل لهذه الخطة الأميركية أمل بالنجاح؟.. يبدو أن حظوظها ضعيفة، لأن الأتراك يعرفون بأن إقليماً مستقلاً للأكراد في سورية، مهما أبعدتهم واشنطن عن حدود تركيا مع سورية يبقى خطراً مسلطاً على وحدتها السياسية، وهي مضطرة بالتالي إلى مقاتلة مثل هذه المشاريع بالتنسيق مع ثلاث دول: روسيا، العراق وإيران، الأولى لمحاولاتها إجهاض الدور الأميركي وتدمير أحادية احتكار القوة. أما بغداد وطهران فتعملان بدوريهما على تفكيك المشروع الكردي خشية إدراكه مناطقهما الكردية.
وهذا يُظهر أن المأزوم هو المشروع الأميركي مهما بذل لسورية ومهما تقاذفتها لعبة الأمم، لأن دمشق وتحالفاتها تتهيّأبعد تحرير الغوطة الشرقية للانتقال نحو درعا وقاعدة التنف وصولاً إلى الشمال في أدلب وعفرين، فهناك يولد الفجر السوري مجدداً على أنقاض مشاريع التفتيت والأدوار المشبوهة لقسد والإخوان.