السقوط الثالث والأخير لـ«الثورة السورية»

سعد الله الخليل

ربما من قبيل الصدفة أو من باب إرسال الرسائل الكبرى في السياسة والأمن، أن تتزامن بداية العام لما أطلق عليها يوماً «ثورة سورية» مع إعلان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان دخول قواته ومرتزقته مدينة عفرين السورية، في احتلال عثماني جديد للأراضي السورية.

منذ انطلاق أولى التظاهرات في مدينة درعا احتجاجاً واستنكاراً وانتقاماً ونصرة لأطفال درعا، والتي لم تثبت أيّ من الأطراف الداعمة للحرب على سورية بعد سبع سنوات صحة الرواية ولم تكشف عن مصير أيّ من هؤلاء الأطفال، وحتى هذه اللحظة سقطت الثورة السورية السقوط الثالث والأخير، قبل وضوح تحوّلها حرباً دولية معلنة تثبت ما ذهبت إليه القيادة السورية منذ اللحظة الأولى، بأنّ ما وراء الحدث المحلي حرب دولية تستهدف كسر موقع سورية في محور المقاومة، وإسقاطها في حرب تبعدها عن خط المواجهة الأمامي بوجه العدو الصهيوني.

سريعاً سقطت شعارات السلمية وحقوق الإنسان والمواطنة باستهداف أولى التظاهرات مراكز الدولة والمؤسسات العامة التي ذهبت حرقاً وتدميراً بنيران حقد دفين على سورية، وفق مخطط استعماري بأدوات سورية انجرّت وراء السلاح والارتهان للدول المموّلة للمشروع المسلح لتسقط «الثورة» أخلاقياً بيد «ثوارها» الذين ارتكبوا أبشع المجازر، من ريف دمشق إلى إدلب مروراً بحمص وحماه بالذبح والقتل والاغتصاب على يد أحرار السلمية وما سمّي بـ»الجيش الحر»، فكانت أولى السقطات بالإعلان الصريح عن الطابع الدموي لـ»الثورة» وفق توجهات جماعة الإخوان المسلمين.

سريعاً بدأت الفصائل المسلحة تتلاشى في ثنايا تنظيم جبهة النصرة الذراع السوري لتنظيم القاعدة. ومع هذا التلاشي ضاعت أصوات قيادات المعارضة السورية عن الحرية والمساواة والديمقراطية، وانخرطت في مشروع العمالة للدول الغربية من تركيا إلى الولايات المتحدة فقطر والسعودية، وتحوّل علمانيو «الثورة» إلى مروّجين لفكر القاعدة باعتبار جبهة النصرة وتفرّعاتها فصائل ثورية قادرة على إرساء قواعد سورية المستقبل، بالتزامن مع زيادة وتيرة التنسيق مع العدو الإسرائيلي على أكثر من صعيد. ومع هذا التحوّل سقطت الثورة في أحضان الإسلاموية التي تتوافق وتلتقي مع الفكر الصهيوني، باعتراف قيادات العدو التي اعتبرت داعش حليفاً رئيسياً لها في سورية لتكشف في سقوطها الثاني عن قواعد المعركة المقبلة في سورية بدخولها مرحلة الحرب المباشرة على الأرض.

تمثلت المرحلة اللاحقة بدخول القوات الأميركية والتركية والتدخل «الإسرائيلي» أكثر من مرة لدعم المشروع الغربي المتهاوي في سورية، أمام التقدّم السريع للجيش السوري خلال العام الماضي على الأرض، والذي تمثل بتحرير مساحات شاسعة من البادية السورية، وأخيراً في الغوطة الشرقية التي يقطع الجيش السوري فيها أشواطاً متقدّمة في القضاء على التنظيمات المسلحة التي تعلن ولاءها للسعودية وتركيا من دون أيّ وجل، ولعلّ التصريح الأخير للناطق باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالين عن سعي بلاده لإخراج النصرة من الغوطة خير دليل على التوغل التركي في عمق الغوطة الشرقية وليس فقط في عفرين ومنبج.

بالتوازي مع السقوط الرهيب لمشروع «الثورة» أتت إطلالة الرئيس بشار الأسد في الغوطة الشرقية بمثابة إعلان النصر السوري، بعد أن تمكّن الجيش السوري من تقطيع مناطق سيطرة التنظيمات الإرهابية في الغوطة إلى ثلاثة قطاعات منفصلة، الأول يضم دوما والريحان، والوسطى حرستا، فيما بقيت عين ترما وزملكا وعربين وجوبر ضمن أكبر قطاعات سيطرة المجموعات المسلحة، وبدا واضحاً أنّ عمليات الجيش تتمّ ضمن استراتيجية تعتمد على تفتيت مناطق السيطرة الكبرى وتحويلها قطاعات صغرى، يتمّ العمل على كلّ منها على حدة عبر اختراقات على أكثر من محور ما يسمح بفصل الجبهات عن بعضها البعض وتضييق مساحة العمليات وتشتيت قوى المجاميع الإرهابية على اختلاف مسمّياتها، ما يزيد الفاعلية النارية على الأرض ويسرّع انهيارها، تحت الضربات المركزة خاصة في ظلّ استحالة تأمين الإمداد اللوجستي في ظلّ الحصار المطبق لفترات طويلة كما في حالة الغوطة الشرقية وهو ما حصل خلال الأيام الماضية.

لا يختلف متابعان ولا قارئان للمشهد العسكري على أهمية الغوطة الشرقية كخاصرة رخوة في الحرب السورية، قادرة على إرباك المشهد السياسي في دمشق والتأثير على مسارات العمل العسكري على امتداد الجغرافية السورية، ويكفي وضع ما يقارب خمسة ملايين مدني في دمشق وريفها في مرمى القذائف لسنوات للدلالة على حجم التأثير القوى لسيطرة التنظيمات المسلحة على الغوطة الشرقية، تسبّبت بارتقاء آلاف المدنيين شهداء وجرحى واستهداف المنشآت الحيوية الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية في مسعى لكسر إرادة السوريين بالحياة والعمل…

الإنجازات العسكرية في الغوطة لا يمكن فصلها عن مسارات عسكرية وسياسية تراكمية تتجاوز في الزمان والمكان حدود العملية الأخيرة ووضعها في سياقاتها الطبيعية، وهو ما يجيب على تساؤلات عدة عن أسباب تأخرها رغم أهميتها الجيوسياسية والعسكرية، وهي تساؤلات محقة لمدنيين يصبحون ويمسون على قذائف تحصد أرواح وآمال الحياة، وعسكريين على خطوط تماس مرابضين على مرارة خروق يومية وصدّ هجوم وردّ محاولات فاشلة بانتظار الساعة الصفر وإطلاق العملية العسكرية التي بنظر كثيرين تأخرت لسنوات، وبالتالي تأتي نجاحات الغوطة الشرقية عسكرياً بعد سلسلة نجاحات أمّنت قطع خطوط الإمداد للمجموعات الإرهابية المسلحة على أكثر من محور من منطقة القلمون من جهة أفقدت مسلّحي الغوطة طريقاً استراتيجياً للإمداد من لبنان والقلمون ومن قاعدة التنف بالسيطرة على البادية السورية وإنهاء الانتشار المسلح من العراق وصولاً إلى ريف دمشق، فهل يمكن تصوّر مشهد عملية عسكرية في غوطة دمشق قبل عام حيث تسيطر داعش على أجزاء كبيرة من الحدود مع لبنان والعراق والأردن، وسياسية بعد أن باتت تلك الجماعات في حصار لا يقلّ عن الحصار العسكري بعد التورّط التركي في عفرين، فيما يسعى الرئيس الأميركي لوضع أسس تفاهمات جديدة مع كوريا الشمالية وروسيا، وبالتالي لم يكن قتل رأس الأفعى الإرهابية في الغوطة ممكناً لولا قطع أذنابها على أكثر من جبهة من حدود التنف إلى الرياض.

تقدّم الجيش السوري وانتصاراته في الغوطة الشرقية يمثل السقوط الثالث والأخير لـ «الثورة» في عامها الثامن.

اترك تعليقاً

Back to top button