الجاسوس سكريبال: «القصّة مِشْ رُمّانة… إنها قصّة قلوب مليانة!»
نصار إبراهيم
بريطانيا العجوز المأزومة بذاتها تتهم روسيا باغتيال العميل سكريبال.. وتعلن طرد 23 ديبلوماسياً روسياً، ثم توالت الدول التي أعلنت التضامن مع الموقف البريطاني تباعاً، الولايات المتحدة: 60 ديبلوماسياً، فرنسا 4 ، ألمانيا 4 ، بولندا 4 ، جمهورية التشيك 3 ، ليتوانيا 3 ، الدانمارك 2 ، هولندا 2 ، إيطاليا 2 ، إسبانيا 2 ، استونيا 1 ، كرواتيا 1 ، فنلندا 1 ، المجر 1 ، لاتفيا 1 ، رومانيا 1 ، السويد 1 ، أوكرانيا 13 ، كندا 4 ألبانيا 2 مقدونيا 1 النرويج 1 .
لست هنا في معرض نقاش قضية العميل سكريبال ومن اغتاله…
ما يلفت النظر أكثر وأبعد في هذه القضية هي الحمى والهوس والجنون الذي تصرّفت به دول أوروبا وأميركا ومن معهما…
حالة من فقدان الدول لعقلها وما تبقى لديها من حكمة..
اغتيال سكريبال ليس أول عملية اغتيال في التاريخ ولن تكون الأخيرة… فسجل الدول ووكالات استخباراتها يكاد يصل المريخ من اغتيالات وانتهاكات وحروب..
ولكن لماذا انفلت عقال الجنون في رقصة شاملة من قبل الدول الغربية ضدّ روسيا في قضية سكريبال هذه!؟
هناك مأثور شعبي يقول: القصة مش قصة رمانة… القصة قصة قلوب مليانة! هذا يعني أنّ تصرف وردود فعل بريطانيا وحلفائها ليس له علاقة «برمّانة» سكريبال… كما يحاولون باستماتة أن يوحوا بذلك… بل يعود لما هو أبعد وأعمق بكثير من هذا الحدث العادي… وهو أنّ هذه الدول التي رقصت على أشلاء الاتحاد السوفياتي منذ انهيار جدار برلين عام 1989 راحت تتصرف مع العالم باعتباره مزرعة لها.. تنهب ما تشاء وتعاقب من تشاء وتهين من تشاء سواء كان دولاً أو شعوباً أو أفراداً أو أحزاباً أو مؤسّسات…
لقد تصرفت الولايات المتحدة منذ ذلك الحين ومن ورائها بيادقها وكانها الله الذي يقرّر مصائر الكون…
ثم فجأة نهضت لهم دولة شجاعة قوية أنيقة اسمها روسيا وإلى جانبها الصين وبعض الدول الجريئة وقالت لهم كفى.. لقد انتهى عصر العربدة… تأدّبوا!
لقد نهضت روسيا بقيادة الرئيس بوتين ووقفت في مواجهة مشاريعهم التدميرية بكلّ بسالة ووضوح وثبات ودفعت بكلّ طاقتها وقوّتها لكي توقف هذا التدمير الذي وظفت فيه مئات مليارات الدولارات وتجنيد مئات آلاف القتلة والأدوات المأجورة ووسائل الإعلام والسلاح ولاستخبارات.
جابهتهم روسيا في أوكرانيا وفي سورية وفي جلسات مجلس الأمن التي تحوّلت إلى خشبة مسرح يقدّم عليه مندوبو الدول الاستعمارية الغربية بقيادة أميركا تمثيليات هابطة تحت عنوان «الحرية وحقوق الإنسان»، وهي الذريعة التي استخدت لشنّ الحروب التدميرية من أجل الهيمنة على العراق وسورية واليمن وقبلها ليبيا وأفغانستان.
الإخفاق في إسقاط الدولة الوطنية السورية التي صمدت وقاتلت ببسالة جيشا وشعباً وقيادة وبدعم من منظومة حلفاء راسخة على رأسهم روسيا، وضع الدول الاستعمارية الغربية أمام حقيقة فشلها في فرض إرادتها وتمرير مشاريعها التدميرية والتقسيمية، فشعرت مع مرور الوقت بأنّ الأمور تفلت من بين يديها وأنّ «الصيدة/ الطريدة» على حدّ وصف وزير خارجية قطر السابق حمد بن جاسم قد أفلتت، وأنّ موازين ومعادلات قوى جديدة تتشكل في العالم، لن تكون وفقها مطلقة اليدين.
لهذا فإنّ هذا السعار الغربي تجاه روسيا هو ردّ فعل يعبّر عن رعب وخوف من المعادلات الجديدة التي باتت معالمها تلوح في الأفق… إنه الرعب والهلع الذي يرافق التراجع والفشل والهزيمة.. ذلك أنه بالتأكيد لا يعبّر عن حالة تقدّم وصعود كما تقول حقائق الاشتباك في الميادين المختلفة.
عملية اغتيال سكريبال هي مجرد ذريعة لا أكثر يتمّ توظيفها بما يشبه سلوكاً يائساً في محاولة يائسة لوقف ديناميات التغيير على صعيد العلاقات وموازين القوى الولية.
إنها محاولة لمحاصرة روسيا واستنزافها ومنعها من قيادة التغيير في العلاقات على المستوى الدولي، وهو تغيير يجري في الميدان الاقتصادي: تأسيس بريكس، ومنتدى شنغهاي، وفي السياسة من خلال التصدي لتفرّد الولايات المتحدة وحلفائها في المؤسسات الدولية وتوظيفها لتأمين الغطاء لحروبها من أجل الهيمنة ونهب ثروات الأمم والدول الوطنية، وعلى الصعيد العسكري عبر تحريك القوة العسكرية الروسية وكشف قدراتها المرعبة التي جاء عليها الرئيس بوتين في خطابه الشهير، الذي كان عنوانه الصاروخ «سارمات».
بناء على كلّ هذا وفي سياقه نفهم هذا الجنون الشامل وفقدان القدرة على التفكير والحكمة والمنطق…
إنّ استخدام قضية اغتيال سكريبال تتقاطع منهجياً بل وتكاد تكون نسخة مطابقة لعملية اغتيال الحريري، حيث يتمّ تصنيع السيناريو والمسرح والشهود والخطابن ثم إطلاق إشارة بدء المسرحية لينطلق الكومبارس الأهوج والأحمق وراء المخرج الأميركي لاستنزاف الخصم ومحاولة إرباكه ووقف تقدّمه.
ذات الشيء حدث في مسرحيات الهجمات الكيماوية في سورية، حيث تقوم المجموعات الإرهابية بتعليمات وبتنسيق كامل مع مشغليها بإعداد مسرح الجريمة لتوفير ذريعة التدخل العسكري في سورية في محاولة لوقف تقدّم الجيش السوري وحلفائه في الميدان.
ذات الشيء يحدث أيضاً من خلال مسرحيات النواح على المدنيين الذين تحتجزهم المجموعات الإرهابية في البلدات والمدن السورية الخاضعة لهم وآخرها مناحة «المدنيين في الغوطة» الذين ما أن توفرت لهم فرصة ممرات آمنة اندفعوا بمئات الآلاف لمعانقة الجيش السوري.. ومع ذلك لم يغيّر غربان «حقوق الإنسان» من موقفهم وسلوكهم شيئاً.
اليوم سقطت كلّ هذه الأكاذيب وانكشفت حتى لم تعد تقنع طفلاً…
لقد انكشفت أبعاد كلّ مسرحيات النواح على حقوق الإنسان والديمقراطية وحياة المدنيين، حيث هي مجرد وسيلة للابتزاز والتدخل والتدمير.
لقد سقطت تلك الدول الاستعمارية سياسياً وأخلاقياً وإنسانياً وعسكرياً في ميادين الاشتباك… فشلت في سورية وفشلت في العراق وتفشل في اليمن وغيرهما…
إنها ذات المنظومة التي تصمت وكأيّ جبان أو منافق أمام القتل والحصار والاحتلال المروّع الذي يتعرّض له الشعب الفلسطيني منذ أكثر من سبعين عاماً…
كما تصمت أمام الحرب الوحشية التي تشنّها السعودية ضدّ شعب اليمن منذ ثلاث سنوات راح ضحيتها أكثر من 35 ألف يمني بين شهيد وجريح إلى جانب ملايين الضحايا جراء الفقر والمرض… عدا عن تدمير البنى التحتية والخدماتية والحضارية.
كما تصمت عن كلّ ما يقوم به نظام البحرين من قهر وقمع ضدّ شعب البحرين الشقيق… كما صمتت من قبل عن تدمير واحتلال العراق وقتل أكثر من مليون عراقي بحجة كذبة أسلحة الدمار الشامل…
خلاصة القول إنّ تصرف بريطانيا وكلّ الدول التي تساندها في قضية سكريبال هو أقرب لسلوك العصابة أو المافيا التي راحت تفقد القدرة على فرض «الخاوة» والابتزاز.. بعد أن نهضت في مواجهتها قوى وشعوب وقادة راحوا يردّون لها الصاع صاعين في مختلف الميادين وعلى كلّ المستويات.