الحرب على الإرهاب… تحوّلات استراتيجية
أسامة العرب
يمثل الإرهاب ظاهرة علمية واسعة الانتشار، امتدّت لتشمل العديد من الدول بالرغم من اختلاف البيئات السياسية فيها. وإلى جانب ذلك فالآثار الدولية للإرهاب العابر للحدود، أضحت بؤرة اهتمام وهواجس الرأي العالمي. حيث يتفق كثير من المحللين أنّ الانتقال النوعي من الإرهاب القديم إلى الحديث تمّ خلال تسعينات القرن العشرين، وتحديداً في مرحلة الحرب الباردة من أجل اسقاط الاتحاد السوفياتي. وبالفعل دخلت موسكو حينها في حرب استمرت عشرات السنين، أفقدت الامبرطورية هيبتها ومكانتها، وأدّت لاحقاً إلى تفكّكها. أما المحطة الأبرز للإرهاب الحديث في القرن الواحد والعشرين فتتمثل بالهجمات الإرهابية على مركز التجارة العالمي في 11 أيلول 2001 في نيويورك، ومبنى البنتاغون في العاصمة واشنطن. الأمر الذي دفع الولايات المتحدة لأن توقن بأنّ الإرهاب قد تمدّد بشكل سرطاني كبير، وبأنه بات يداهمها هي الأخرى أيضاً.
ولذلك، تمّ إنشاء لجنة لمكافحة الإرهاب بموجب قرار مجلس الأمن 1373 في 28 أيلول 2001، وهو القرار الذي طالب الدول بتنفيذ عدد من التدابير الرامية إلى تعزيز قدرتها القانونية والمؤسّساتية على تطويق الإرهاب، واستأصل شأفته. غير أنّ ذلك لم يمنع بعض الدول من الاصطياد بالماء العكر، ومحاول استغلال الإرهاب لتحقيق أهداف سياسية منشودة، ففي حزيران 2014 تمكن التنظيم الإرهابي داعش من الاستيلاء على الموصل التي كانت حمايتها لا تقلّ عن 30 ألف جندي بتجهيزات عسكرية ثقيلة، وتمكن بعد 48 ساعة من الاشتباك مع القوات العراقية في مدن أخرى تبعد عن الموصل بـ 300 كم، وأصبح بذلك مسيطراً على مساحة من الأرض أكبر من مساحة لبنان بعدة مرات، تضمّ نحو ثماني ملايين عراقي وسوري مأسورين.
وكان مثيراً للاهتمام أن يعلن الرئيس الأميركي الأسبق أوباما حربه على داعش في الذكرى الثالثة عشر لهجمات 11 أيلول 2001، بيد أنّ المثير للدهشة أن يظهر لاحقاً أنّ أغلب كوادر التنظيم الإرهابي كانوا يحملون جوازات سفر غربية، ويأتون من أوروبا وأميركا، ويقدّر عددهم بحوالي ثلاثة آلاف عنصر، كما تشير التقديرات إلى أنّ الأعداد الحقيقية لهذا الجيل الغربي من الإرهابيين أكثر من ذلك بكثير، وأنّ أغلبهم أتى من استراليا وإيرلندا وألبانيا وألمانيا والولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وكوسوفو ومقدونيا ونيوزيلاندا واسبانيا وبلغاريا وإيطاليا والنروج ورمانيا والسويد، وبالطبع بلدان أخرى لم تعرب عن ذلك.
إنّ الحرب ضدّ الإرهاب لا تندرج ضمن إطار نزاع ثنائي أو متعدّد بين الدول، وإنما هي حرب عالمية ضدّ عدو غير محدّد في المكان ولا حتى في الزمان، وهي حرب جديدة تبتعد عن الأجواء والأدوات التقليدية للحروب السابقة، وهي تستلزم لنجاحها محاربة جميع الآليات التي تمدّ هذا الإرهابي بالمال والأدوات العسكرية والدعم السياسي… لأنّ الانتصار على الإرهاب يحقق استقراراً للمجتمع الدولي بكامله وليس للدولة التي تتصدّى للإرهاب فحسب.
لقد سبق للجمعية العمومية للأمم المتحدة أن أصدرت في العام 1994 إعلانها الشهير حول مكافحة الإرهاب الدولي، وطالبت الدول المعنية بالالتزام بالتوصيات التي أوردها الإعلان، ثم عمدت في جلساتها اللاحقة لاعتماد الإعلان نفسه حتى نهاية التسعينات. كما سبق لمجلس الأمن أن أصدر القرار 1368 في 12 أيلول 2001 بشأن مكافحة الإرهاب، الذي يشكل تهديداً للسلم والأمن الدوليين، فكيف وصل الأمر أن تفاقم الإرهاب لدرجة أن بات لحفنة من التكفيريين حلم بتأسيس دولة خرافة؟ وطالما أنّ القرار 1368 استند إلى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، فلماذا لم يتمّ تفعيل ضمانات التنفيذ التلقائي لمواجهة الإرهاب بحق الدولة أو الدول المخالفة.
ليس هناك أدنى شك بأنّ دولة الخرافة كانت ترمي لتحقيق مشروع الشرق الأوسط الجديد، وبأنّ هذا المشروع كان يرمي إلى تفتيت العراق وسورية ولبنان، وإلى إقامة كيانات متصارعة ومتحاربة على أسس طائفية ومذهبية وعرقية لا تنتهي. وكلّ ذلك من أجل نهب ثروات المنطقة ومقدراتها، لا سيما بعد اكتشاف حقول نفط جديدة فيها.
وليس هناك أدنى شك، بأنه لولا جهود محور المقاومة لما تحرّرت الأوطان ولما حفظ العراقيون والسوريون واللبنانيون سلامتهم من الإرهابيين، ولما بقي هنالك شيء اسمه العراق أو سورية أو لبنان. ففي الوقت التي كانت فيه طائرات بعض الدول ترمي المعدات العسكرية والموارد المالية للإرهابيين، كان محور الشرفاء يتصدّى بدمائه ودماء أبنائه ويدفع أغلى الأثمان. لكن السؤال المهمّ هنا: هل يدرك الرأي العام هذا الأمر؟ وهل أخذ المعارضون العبر من أهمية العمل المقاوم، أو بالأحرى من أهمية العمل التَحرُّري والتحريري؟
ولعلّ التركيز على هذه الحيثية بالذات، يحيلنا إلى مسألة تشريع المقاومة الوطنية لتقرير المصير ولمواجهة الاحتلال، والواقع أنّ ميثاق الأمم المتحدة واتفاقية جنيف الرابعة قد شرعتا هاتين الحالتين، وعكفت الأمم المتحدة منذ الستينات من القرن الفائت على التأكيد على هذا الحق كشرط أساسي لضمان وممارسة حقوق الإنسان والاستعانة بالشعوب المناضلة من أجل تمكينها من التحرّر. فيما انحصر دور مجلس الأمن الحقيقي بتوفير الغطاء اللازم للدولة العظمى من أجل فرض سياستها على سائر الدول ضمن إطار الأحادية العالمية.
إنّ الأحداث المأساوية التي عاشها الشرق الأوسط، كانت نتاج غياب وجود آليات دولية تحفز السلم والأمن الدوليين وتحفظ السلام العالمي، وذلك من خلال تطبيق قرارات الشرعية الدولية وترجمتها على أرض الواقع. فالبناء الدولي ينقصه حتى الآن أهمّ عنصر من عناصره، ألا وهو عنصر التنفيذ. وبذلك تبقى جهوزية المقاومة السبيل الوحيد لمواجهة التحديات التي تحول دون إحلال السلام، ولمواجهة كلّ ما يهزّ أمن وسلامة المجتمعات المستضعفة بملايينها المتعددة، وذلك ريثما يتم القضاء على الإرهاب من جذوره.