الأميركيون في اللعبة الأخيرة لوقف التصدّع
د. وفيق إبراهيم
تتدهور العلاقات بين الطرفين الروسي والأميركي في الساحة السورية «المفتوحة»، بشكل قد تصل إلى حدود اندلاع حرب إقليمية قابلة للتوسّع. فلماذا تًؤزّم واشنطن «الاستقرار الدولي» وتضع منطقة الشرق الأوسط وربما العالم بأسره تحت رحمة محاولات، تبدو في الظاهر إنسانية، لكنها تُخفي في العمق أهدافاً أخرى تجسّد بوضوح علاقات الغرب الاستعماري بأفريقيا وآسيا والأميركيتين.. فملايين القتلى سقطوا بنيران هذا الغرب الذي يستعمل الأبعاد الإنسانية، كما يستخدم المناديل الورقية؟
.. لا بد إذاً من أنّ يكون لدى الأميركيين الكثير من الأسباب «الاستراتيجية» التي تفرضُ عليهم تعبئة حلفائهم وقواتهم في وجه الحلف الروسي ـ السوري والإيراني المتكئ على خلفية صينية.. هي تعبئة جنونية تستند إلى اتهامات للجيش السوري باستعمال سلاح كيماوي في مدينة دوما في الغوطة الشرقية. وهي الاتهامات نفسها التي ساقها الأميركيون والأوروبيون للدولة السورية في معارك حلب وحمص وحماة ودير الزور في أوقات مختلفة من العامين الفائتين.. الغربُ يتهم ويدين وينفذ أعمالاً عسكرية تدميرية.. من دون شهود وإثباتات ومحاكمات.. ويرفض دائماً تشكيل لجان تحقيق في صحة مزاعمه، لأنه يعرف أنها مفبركة.. وذات أهداف سياسية.
هناك أسباب داخلية صرفة، لكنها تتعلق بنيوياً بالنفوذ الأميركي في سورية، وارتباطه بحلفائه في المشرق العربي وصولاً إلى تركيا وحصار إيران..
إنّ مجرد اجتماع هذه العناصر خلف اتهام واحد للجيش السوري باستعمال الكيماوي ضد المدنيين يكشف أن أهداف الأميركيين، ليست إلا محاولة أخيرة لتحصين نفوذهم الدولي المهدَّد بالتصدع لمصلحة الحلف الروسي، الإيراني، السوري الجديد.
لجهة البعد الداخلي، يقول الخبراء العسكريون إنّ تحرير الغوطة الشرقية، يفتح أبواب المجابهات العسكرية المكشوفة مع القوات الأميركية المنتشرة في قاعدة التنف وشرق الفرات.. كما يضع خاتمة لبؤر إرهابية أخيرة تتوزع بإشراف مشغليها العرب والإقليميين والدوليين في البادية السورية ومناطق حدودية بين أرياف دير الزور والحدود مع العراق. وهذا يعني الانكشاف الملموس للعلاقة بين الأميركيين والإرهاب… ما يجعل من فبركة الاتهامات باستعمال الكيماوي، وسائل لتشويه صورة الجيش السوري والدولة السورية ومحاولة قطع الثقة الشعبية بهما.. هذه الثقة التي تزداد على وقع معارك تحرير المدن، وإصرار الدولة على رعاية النازحين وإعادتهم إلى مناطقهم في أسرع وقت ممكن.
لذلك يحاول الأميركيون خلق الظروف الدولية والداخلية المناسبة لتسديد ضربة عسكرية توقف تقدّم الجيش السوري نحو أهداف جديدة.. يكفي هنا التساؤل عن مدى حاجة الجيش السوري لاستعمال «الكيماوي» حتى ينكشف الدور الأميركي.. فجيشٌ تمكّن من تحرير نحو تسعين في الأمة من الغوطة مُحاصراً الإرهاب في دوما ضمن دوائر ضيقة جداً… هل له مصلحة باستعمال «الكيماوي»؟
أما عن الطرف المستفيد من فبركة استعمال الكيماوي فهو «المهزوم» الذي يريد إيقاف الجيش السوري، وهما هنا طرفان: الإرهاب ومشغلوه أي جيش الإسلام المحاصر في دوما والمرتبط بالسياسة السعودية في سورية وراعيهما الأكبر أي الطرف الأميركي.. لذلك فإن فبركة الكيماوي «الممجوجة» لفرط استعمالها ليست إلا لعبة أميركية ـ سعودية للمحافظة على دوريهما التخريبيين على الأراضي السورية. وهذا تحليل موضوعي، عقلي.. ولا يُمكن نفيه إلا بلجان تحقيق نزيهة تعتمد على العلم المعادي للسياسات الخبيثة.
هذا عن البعد الداخلي.. فما حكاية الارتباطات الإقليمية والدولية.. ولماذا هذا التحشيد الأميركي للجيوبولتيك الخاص به في الشرق الأوسط وأوروبا؟
المُتمعِّن في الأحداث المتسارعة يستخلص وجود استشعار أميركي يعبَّر عن نفسه بجنون سياسي ـ عسكري حيث تراجع نفوذه دولياً بالارتباط بتقهقر هيمنته على مناطق النفط والغاز في المشرق العربي.. انطلاقاً من تراجعه في سورية.. وهذا تسلسل منطقي للأحداث يكشف شراسة الصراع الأميركي ـ الأوروبي مقابل الروسي والإيراني والسوري مع احتمال انضمام الصين ومحاور أخرى إليه.
إنّ تحرير سورية يؤسس عند الأميركيين لولادة محور سوري ـ عراقي هو الأقوى «نظرياً» في الشرق الأوسط، لما يحتويه من مياه عذبة وأراضٍ خصبة ومصادر طاقة وقوة سكانية وموقع استراتيجي. وهذا يؤثر في الدول المجاورة في لبنان والأردن والخليج و«إسرائيل»، معيداً ربط مصر بالمشرق أي إخراجها من الكيان الإسرائيلي، ومُنقذاً السعودية من ديكتاتوريتها القرون أوسطية.
لقد أدّى هذا التخوف إلى تشكل محور أميركي ـ إسرائيلي ـ سعودي يحاول توفير ظروف قوية لتجديد الأزمة السورية ومحاولة إعادة تشكيل آليات صراع جديدة تبدأ بإيقاف الجيش السوري في الغوطة ومنعه من التمدد جنوباً وشرقاً قبل إدراكه مناطق المجابهات مع المحتلّ التركي.. فكانت الفبركة الجديدة لاستعمال الكيماوي المزعوم المترافقة مع تهديدات عسكرية غربية بضربات يُراد منها إضعاف القوة العسكرية للدولة السورية. والبدايات ظهرت بالغارة الإسرائيلية على مطار التيفور في حمص، انطلاقاً من الأجواء اللبنانية. وكأنها غارة تجريبية لقياس ردود الفعل الروسية ـ السورية ـ الإيرانية.. وبناء عليه، يمكن قياس «المدى العسكري» الذي يستطيع الأميركيون «اللجوء إليه» في ألعابهم السورية، المعرقلة لإعادة توحيد سورية.
أما عن الأهداف الإقليمية والدولية لهذه العدوانية الأميركية، فيجب ربطها بالرغبة الأميركية المجنونة بالمحافظة على أحادية الإمساك بالمرجعية والقرار الدوليين.. وهذا يتطلّب مسرحية من جزءين: سوري لجذب إسرائيل والسعودية وما تيسر من دول عربية، وإقليمي يناهض تحرير سورية من الإرهاب ويعادي إيران المشاكسة، ذات الدور الإقليمي الكبير.
دولياً، تسعى واشنطن لإعادة ترميم «أوروبا» خلف رايتها وجزء من «جيوبوليتيكها» العالمي، وذلك لخشيتها من انجذاب ألمانيا وفرنسا نحو مشاريع بناء الاقتصادات في منطقة تمتدّ من لبنان إلى سورية فالعراق وإيران.. لذلك جرى تكليف السعودية بتوزيع صفقات اقتصادية في أوروبا لحصرها ضمن السياسة الأميركية، ومنع تمرّدها.. كما حدث في الاتفاق النووي الإيراني حين أصرَّ الأوروبيون على أنّ طهران تلتزم ببنوده ولم تخرج عنه.
لذلك، فإن إعادة تحشيد أوروبا انطلاقاً من الاقتصاد ومطامعه، تبدو عملية أميركية ـ سعودية، جيدة لجذب الاتحاد الأوروبي إلى مشاركة عسكرية في سورية وأفريقيا، ليس لاهميتها العسكرية فقط، بل لما تعنيه من العودة إلى الانضواء الكامل في المشروع الأميركي العالمي.
يبدو الاستنتاج أنّ سورية هي المحطة، التي تعكس استكمال تشكيل مرجعيتين ذاتَيْ تحالفات وازنة في مختلف أنحاء العالم. الأولى أميركية وبدأت في 1989 تاريخ انهيار الاتحاد السوفياتي وتفرّدت منذ تاريخه بإدارة العالم حروباً وجنوناً وقتلاً.. والثانية روسية ـ إيرانية بدعم صيني، أتاح لها النصر في الميدان السوري من زعزعته حصرية القوة الأميركية في العالم. بالتالي أحاديتها، لذلك فإن الصراع على سورية هو الموعد الذي يستعمله المؤرخون لتمديد تصدّع الأحادية الأميركية وولادة مرجعيات دولية لها ميّزة وحيدة: وهي إمكانية ولادة قوى إقليمية تستفيد من التوازنات التي يتيحها الصراع بين الدب الروسي والعم سام الأميركي المصاب بخرف العجائز.