لبنان بلد المعجزات السياسية: انتخاباته رفقة طريق!!
د. وفيق ابراهيم
الانتخابات في العالم آلية «سياسية» صرفة تستند إلى مؤيّدين وحلفاء ومعارضين لديهم برامج سياسية تجمع بين التناقض حيناً والتعارض السطحي حيناً آخر.. وفيها وسائل براغماتية.. لكنها تأتي في المرتبة الثانية خلف التحالفات السياسية الثابتة.. التي تنتج في العادة سلطة تدير البلاد مقابل معارضات تراقبها وتتربّص بها للثأر في الانتخابات المقبلة ضمن الإطار الديمقراطي.
ما يحدث في الانتخابات الحالية في لبنان ينأى بنفسه عن هذا المفهوم العالمي لمسار الانتخابات، المتنوّعة في أقصى الأرض.. هنا فقط في بلاد «الكم أرزة العاجقين الكون» يمكن تأسيس لوائح انتخابية مشتركة بين أحزاب لديها برامج سياسية تتناقض وطنياً وداخلياً وإقليمياً ودولياً وعربياً، وليس بينها أيّ قاسم مشترك ولا تزال تتبادل الاتهامات الاستراتيجية التي يُفترض أنّ تُشرّع للقضاء فتح أبواب المحاكمات والسجون. لكن المسلوب الإرادة لا يؤذي المتحكِّم به إلى درجة الخنق.. بل ينصاع له متستراً على فضائحه.
فما هي المبرّرات التي تجعل الانتخابات اللبنانية مجرّد «رفقة طريق» بين أطراف سياسية لا قواسم مشتركة بينها حتى بالحدّ الأدنى.. وتتناقض على كلّ شيء تقريباً، بما فيه المشروع السياسي الداخلي والعربي والإقليمي والدولي؟ فكيف تحدث معجزة هذا التلاقي القصير العمر بين قوى متناقضة حتى العظم وكلّ أنحاء المرافق؟
هذا ما يفرض البحث وبعمق عن المبرّرات.. وأولها التساؤل عن الدواعي التي كانت تمنع بقسوة التحالف بين قوى غير منسجمة سياسياً.. وبين ما بعد 2018 التي كسرت المحظور وأباحته.. وينبثق فوراً قانون الانتخابات الجديد الذي «صنعه» وزير الخارجية جبران باسيل.. لأنّ التغيير في مفهوم التحالفات بدأ مع إقراره في المجلس النيابي بمعارضة ضئيلة جداً.
تنقسم القوى اللبنانية إلى ثلاث فئات سياسية شبه «مؤدلجة» ترتبط بالإقليم بتحالفات واضحة تدفعها إلى الاصطفافات الدولية الواضحة. وإذا كان لحزب الله حركته الواضحة في مجابهة الإرهاب والنفوذ الأميركي و«إسرائيل»، فإنّ لحزب المستقبل أيضاً علاقته الواضحة بالسعودية والإمارات وواشنطن وفرنسا، إلى جانب القوات اللبنانية التي تجمع بين العداء لسورية وإيران مقابل الولاء لكلّ مَن يعادونهما.. وكذلك الكتائب والأحرار وبعض تيارات الاخوان المسلمين.. وأكثر.
وتندرج في هذه الفئة الأحزاب القومية والتقدمية المرتبطة بالإقليم.. أما غير المرتبطة فلا موقع لها في التحالفات الكبيرة.
لجهة الفئة الثانية، فأبرز رموزها الحزب التقدمي الاشتراكي والتيار الوطني الحر، اللذين يتمتعان بهامش حركة واسعة لأنّ ارتباطاتهما الإقليمية لها صفة غير مباشرة أيّ تمرّ بوسيط داخلي.
وكان حزب المستقبل يشكّل البوصلة الإقليمية للوزير جنبلاط وحزب الله بالنسبة للتيار الوطني الحر، لكن الوضع اختلف مع صعود الدور الفرنسي المعتمِد حالياً على خدمات فريق الحريري بالتعاون مع «الأشقاء» في مملكة الرمال ومواهب العونيين.
أما الفئة الثالثة، فتضمّ حقلاً واسعاً من شخصيات ورجال أعمال مرتبطين بمراكز دولية ودينية واقتصادية وجمعيات تنتحل صفة أحزاب.. هذه الفئة ازدهرت في مرحلة المرحوم رفيق الحريري الذي استطاع جذبها في نظام طائفي ـ مذهبي من حصص المسيحيين وقوى إسلامية أخرى مشكلاً أكثرية نيابية حكمت لبنان بمكارم آل سعود من 1992 حتى 2005.. وصولاً إلى مرحلة وريثه الشيخ سعد المستمرّ بالدعم نفسه. كان هذا التشريح ضرورياً لإظهار العلاقة بين قانون جديد للانتخابات وانقسامات سياسية لا تزال على حالها واصطفافات إقليمية ودولية ثابتة.. فما الذي دفع إلى تحويل هذه الانتخابات من سياسية يليها عادة العامل البراغماتي الانتهازي إلى «برجماتية وصولية» تحذف العامل السياسي بشكل شبه كامل.
إنه قانون المعجزات؟
لقد تمكّن الوزير باسيل من إنتاج قانون انتخابي جديد يجمع بين الخصائص المذهبية العنيفة، والمغطاة شكلاً بنظام نسبي.. لكن المدقّق في التفاصيل يكتشف أنّ النسبية في قانون باسيل موضوعة لخدمة المذهبية فقط، وليس لصالح الاندماج بين اللبنانيين.
لقد جاء إبداعه بثلاث وسائل: تقسيم الدوائر الانتخابية الذي أمّن للمذاهب مناطق انتخابية أساسية لها تتضمّن أكبر عدد من ناخبيها.
والوسيلة الثانية هي الصوت التفضيلي الذي لن يذهب بحكم التحشيد المذهبي إلا لمرشحي المذهب نفسه.
أما الوسيلة الثالثة فاعتمادُه النسبية التي تسمح لكلّ «القوى المذهبية» فقط.. وحصراً أن تمتلك مقاعد مهما تفاوتت أحجامها شرط حيازتها الحاصل الانتخابي.
وبذلك أمّن الوزير باسيل تأييد كامل القوى المذهبية في البلاد التي رأت في قانونه مشروعاً لإنتاج «مشيخات مذاهب» تتحالف في إطار مؤسسات دستورية مذهبية بدورها.
وما لم يذكره باسيل في قانونه الانتخابي ويختبئ خلف البنود المذكورة، فهو معرفته العميقة أنّ المذاهب المسيحية متمحورة حول الدور الماروني الأساسي وقانعة به.. ما يعني أنّ أيّ انتخابات لن يفوز فيها إلا فريق ماروني أساسي يجمع في فريقه نواباً مسيحيين من الموارنة والكاثوليك والبروتسانت والأرمن من دون أية حساسيات. وقد يضمّ نواباً مسلمين بحكم وجود أقليات إسلامية في مناطق ذات غالبية مسيحية.
وبذلك يصبح التيار الوطني الحر منطقياً أكبر قوة نيابية في البلاد، تفتح الطريق لانتخابات رئاسة الجمهورية المقبلة، حسب الاتجاهات الباسيلية.
في المقابل، فإنّ الانتخابات عند القوى الإسلامية تجري وسط عداء عميق بين مكوّناتها المذهبية عملت عليه القوى الغربية والخليجية بأسلوب إثارة الفتنة السنية ـ الشيعية منذ عقد وأكثر وبشكل متواصل. لذلك لا إمكانية لقيام حلف إسلامي عام مقابل حلف مسيحي عام يقوده الموارنة منذ استقلال لبنان.
لا يشجّع هذا التحليل على تبنّي الاشتباكات الطائفية والمذهبية السائدة حالياً، لكنه يحاول كشف أبعادها وعواقبها للحدّ منها على أمل بناء نظام لبناني ديمقراطي لا يمكن استيلاده إلا بعد الانتهاء من النظام الطائفي الحالي.
إنّ النتائج السياسية للانتخابات المقبلة، ذاهبة باتجاه تعميق الانقسامات بين اللبنانيين وتتوغّل في لعبة التحشيد المذهبي بين المسلمين على أسس سنية وشيعية ودرزية غير قابلة للانسجام السياسي إلاّ على القطعة المذهبية، مقابل ولادة قوة مسيحية كبرى هي التيار الوطني الحر يليه حزب القوات اللبنانية، إنما بفارق كبير لصالح حلف باسيل.
وهنا لا يتحمّل الفريق العوني مسؤولية إنتاج هذا القانون الانتخابي الذي يبعد كلّ لبناني عن «أخيه وأمه وأبيه».. وإلاّ فكيف تفهم تحالف الاشتراكيين مع «القوات» المتكئ على عشرات آلاف القتلى في حروب دامية وخلافات أيديولوجية يفترض أنها عميقة؟ وكيف نستوعب تحالف «المستقبل» السعودي مع العونيين منتجي تحالف مار مخايل مع حزب الله؟ ولماذا التباعد بين المستقبل والقوات المنتمين أصلاً إلى المحور السعودي ـ الأميركي؟ وما هي الأسباب التي تجعل ممكناً التخلي عن الوزيرين أرسلان ووهاب في مناطق معينة والتمنّع عن تحالفات عميقة مع الأحزاب القومية وغضّ الطرف عن إمكانات المردة؟
هناك الكثير من الأمثلة التي تسمح بالقول إنّ الاعتبارات السياسية تراجعت لمصلحة تحالفات «رفقة الطريق» التي سببها قانون يفرض على الأخ «الغدر بأخيه وأمه وأبيه»، حتى ضمن اللائحة الواحدة.. لأنّ لعبة التفضيلي تُفقد الطامح عقله وتصيبه بجنون البحث عن صوت تفضيلي.
لبنان إلى أين؟ الظلمة لا تنتج ضوءاً، لكنها تخلق الظروف المؤاتية للتغيير.. وما يجري اليوم هو قاع الظلمة التي تبشّر بولادة نظام مدني لبناني، يتيح الاندماج بين أبناء المذاهب لبناء مواطنة تؤسّس للبنان الجديد.. وهذا يحتاج إلى صبر ساعة.