جلباب الشرق الأوسط الأميركي يتشقق!

د. وفيق إبراهيم

يهتزّ النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط على وقع صراعات دولية وإقليمية عنيفة تتمركز في الميدان السوري الذي بدأ يمتلك القدرة على منح المنتصر فيه ميّزة إعادة تشكيل منطقة تمتدّ من آسيا الوسطى وحتى القرن الأفريقي. وهذا يتضمّن باكستان والمشرق العربي والسودان وإيران وتركيا.

والشرق الأوسط المتحدّر من سلفه الشرق الأدنى هو تسمية أميركية منذ 1904. لكن استعمالها ابتدأ عندما أطلق المستعمرون الإنكليز على جيشهم في مصر عام 1945 لقب «قوات الشرق الأوسط».. هذا يكشف بوضوح أنّ الشرق الأوسط ليس مصطلحاً تاريخياً ولا حقيقة سياسية بقدر ما يعبّر عن مشروع أميركي حديث للربط بين مناطق عربية وإسلامية يتبع لنفوذهم. والدليل أنّ واشنطن ألحقت آسيا الوسطى ضمن هذا المصطلح بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في 1990. وهكذا أسقط مصطلح المشرق التاريخي Levant الذي كان يضمّ المشرق العربي وتركيا وإيران بالضربة القاضية.

لكن ما يجري اليوم في سورية من قتال ضارٍ بين مشروعين سياسيين دوليين يشملان القوى الكبرى والإقليمية والعربية والداخلية يكشف عمق علاقة هذا الصراع في المنطقة بأسرها، انطلاقاً من قلبها في بلاد الشام.. وإلا كيف نفسِّر هذا «الاستشراس» الأميركي ـ الأوروبي ـ الإسرائيلي ـ التركي والخليجي، على تدمير الدولة السورية، ببذل نفقات تكفي لتدمير قارات بكاملها.. وكيف نُبرِّرُ الإصرار الروسي ـ الإيراني على الدفاع عن هذه الدولة، بكل إمكاناتهما، علماً أنّ روسيا متراجعة اقتصادياً وإيران كذلك، كما أنّ سورية بدورها تتعرّض لحروب تدمير قلّصت ناتجها إلى الحدود الدنيا… هذه الدول تبذل اليوم معظم إمكاناتها لمعرفتها باستراتيجية الصراع على سورية وارتباطه بمعركة الشرق الأوسط الكبرى.

لتفسير هذا الربط وبعجالة.. نبدأ من مرحلة انهيار الاتحاد السوفياتي.. التي حاول فيها الأميركيون الاستفادة من خلوّ المنافسة الدولية لهم لإعادة تشكيل الشرق الأوسط على نحو «يُسلطنهم» على العالم لقرون مقبلة.. فاجتاحوا أفغانستان والعراق مسيّرين مشاريع تدمير في سورية والعراق وليبيا وأميركا الجنوبية وبحر الصين… بدا الثور الأميركي نطّاحاً يريد بعثرة الأمم والدول والأعراق لاجئين إلى الحروب تارة والفتن العرقية والطائفية والقبلية والجهوية مرات أخرى، بدوا مسرعين ومهرولين لتفتيت الشرق الأوسط مكوّنات صغيرة قبل استيقاظ المنافسين السابتين في حينه.

نجحوا في احتلال أفغانستان والعراق وتدمير ليبيا وتحويل مصر كياناً ثانوياً.. واضعين تونس وتركيا على لائحة الانتظار، ومقسّمين السودان كيانين مرشّحين ليصبحا أربع أو خمس دول على الأقل، ومطوقين الصومال كسيرك يدور فيه قتال وحشي، حقيقي منقول بالألوان على شاشات العالم، برعاية أفلام هوليوود.

إلاّ أنّ ما أوقف الابتلاع الأميركي للشرق الأوسط الجديد هي مجريات الحرب على سورية.. فلم تكفِ سبع سنين لتدمير دولتها الوطنية.. على الرغم من دعم إرهاب عالمي غير مسبوق، جرى دعمه بأموال الخليج المتناثرة كالأرزّ، والرعاية الأميركية الدقيقة التي كانت تدرك حيناً حدود الحماية المكشوفة لهذه التنظيمات بتعمّد قصف الجيش السوري وحلفائه لإيقاف تقدّمهم والادعاء بوجود خطأ في القصف.

فهم حزبُ الله البعد الشرق ـ أوسطي للحرب على الدولة السورية، فوجّه مجاهديه للدفاع عنها، باستبسال فاق التوقعات، ممهداً للعودة الروسية إليها وللانغماس الإيراني فيها. مؤسساً أيضاً لحلف بين دول لم تتحالف مرة في تاريخها. فالصراع الروسي ـ الفارسي شكّل السمة السائدة للعداء بين هاتين الإمبراطوريتين على مدى التاريخ، وحتى مطلع القرن العشرين…

يبدو أنّ الاستعصاء السوري على المشروع الأميركي خالف توقّعات الأمن القومي الأميركي، الذي بوغت بفشل المنظمات الإرهابية في تدمير الدولة، خصوصاً أنّ تركيا والخليج وإسرائيل فعلت كل ما يمكن تدبيره لدعمها.. ووصلت حدود التخطيط بتهجير السوريين من مناطقهم إلى تركيا والأردن ولبنان وإفقارهم لإرغامهم على تشكيل الجسم المقاتل المغلوب على أمره للمنظمات التكفيرية مقابل بدل لا يتعدّى الـ300 دولار شهرياً كان يستعملها هذا السوري لتأمين الطعام لعائلته النازحة. وهذا ما فعلوه أيضاً في المناطق التي سيطروا عليها في محافظات سورية، أي الإفقار للإمساك بالرجال والنساء في آن معاً وترويع الأطفال وإلحاقهم في مدارس تروّج للفكر الوهابي المتطرّف ومفاهيم سيد قطب كي يوفّروا بيئة موالية لهم على كل المستويات.

كل هذه المحاولات لم تؤدِ إلى الهدف المطلوب، المتعلّق بإسقاط الدولة السورية، ما باغت المشغلين الذين كانوا يعتقدون بسهولة مشروعهم.. وبوغتوا أكثر بتطوّر الدورين الروسي والإيراني.. فجُنّ جنون الأمن القومي الأميركي ووكالات المخابرات والسمسار ترامب.. لأن الحرب الأميركية على سورية أوقفت مشروعها لإعادة تركيب الشرق الأوسط.. هذا ما أدّى إلى استعمال البيت الأبيض أدوات جديدة في الشرق، تتمظهر في الغارات الإسرائيلية «غير المبرّرة روسياً» ومشاركة فرنسا وبريطانيا في العدوان على سورية.. وإعلان استعدادهم لأدوار عسكرية دائمة فيها.

ومثل هذه المشاركة الأوروبية مع التصعيد الإسرائيلي لا يمكن استيعابه إلا بحالة الاستبداد في المشروع الأميركي في الميدان السوري. بمعنى أنّ «اللقمة الشهيّة» وقفت في سقف حلق التنين الأميركي وسدّتهُ وأصابته بحالة اختناق يحاول بواسطة شركائه الأوروبيين والخليجيين والإسرائيليين استعمال أساليب جديدة لهضمها.

ما هي هذه الأساليب الجديدة التي يبني عليها الأميركي المرعوب من تشقّق هيمنته على أهم منطقة استراتيجية يحتويها منذ العام 1945 على مستوى الإمساك بإنتاج نفطها وتوريد كامل ما تستهلكه من طعام وملبس وسلاح وسيارات وصولاً إلى اللباس العربي التقليدي المذهّب والعقالات المصنوعة في أوروبا بشكل فاخر، أما العادية منها فتنتجها تايوان.. ولديه طموح بالسيطرة على الإنتاج المرتقب للغاز في إيران وقطر والعراق والسعودية والساحل السوري.. المصري ـ اللبناني؟

هذا ما يدفع فرنسا وبريطانيا للتآمر على سورية، أما «إسرائيل» فتعتبر أن انهيار سورية هو الضربة القاضية الكفيلة بإنهاء القضية الفلسطينية نهائياً… لجهة دول الخليج، فإنّها ترى أنّ إنهاء الدولة السورية يشكّل تعزيزاً لاستمرار عائلاتها الحاكمة في ممالكها وإماراتها، وتوطيداً للهيمنة الأميركية على الشرق الأوسط، لِما تشكّله من حماية لدولها مقابل الدفع على طريقة ترامب:

«تدفع نَحْمِك».

يتبيّن بالنتيجة، أنّ التورط الأوروبي في سورية وسيلة لدعم المشروع الأميركي لتفتيت المنطقة ومحاولة فرنسية ـ بريطانية للنهوض الدولي مجدداً.. لمجمل هذه الأسباب، يحاول العقل الأميركي استنباط آليات جديدة عبر محاولتين:

الأولى استرجاع تركيا والثانية تركيب ناتو عربي ـ أوروبي.

ما يعرقل هاتين المحاولتين يتعلّق في أنّ تركيا تريد إلغاء كاملاً للمشروع الكردي، لا توافق واشنطن إلاّ على تحجيمه من الجهة التركية فقط.. وهذا ما لا تقتنع به أنقرة مطلقاً، لأنها على إلمام كافٍ بالخبث الأميركي ـ الأوروبي المصابة به بدورها.

على مستوى الناتو العربي، ليس هناك دول عربية جاهزة لإرسال أفواج عسكرية كبيرة تستطيع تغطية الدور الأميركي في سورية. فالسعودية متورطة في اليمن الذي له الأولوية بالنسبة إليها. وكذلك الإمارات.. أما بقية دول الخليج فليست مستعدّة للمشاركة.. كما أنّ الانخراط السوداني لن يُحدث قيمة مضافة، لأن الجيش السوداني ضعيف ومجيئه إلى سورية لن يزيد عن دور المرتزقة، بالأجرة.

والمطروح اليوم خليجياً وأميركياً، هو إضفاء لمسات تعريب على فيالق باكستانية وأندونيسية وأردنية وسودانية ومصرية، تعمل تحت العلم الخليجي في شرق الفرات، لكن هذه المحاولة تشبه الغريق الذي يتعلّق بحبال الهواء.

والملاحظ حتى الآن أنّ الجلباب الشرق أوسطي للأميركيين يهترئ للعجز عن تجديده.. فهل تذهب واشنطن نحو حرب واسعة، تجدّد إمساكها بالمنطقة أم تلجأ إلى تفاهمات روسية، لن تؤدي إلاّ إلى مزيد من قوة الدولة السورية واستقرار إيران وتوسّع روسيا في المنطقة؟ هذه هي طبيعة الصراع التي تتجه إلى تأكيد سقوط احتكار القوة الأميركي في معقله في الشرق الأوسط.

اترك تعليقاً

Back to top button