مشاريع أميركية إقفال الطريق إلى.. موسكو!
وفيق إبراهيم
المحاولات ليست جديدة.. لكن الحاجة الأميركية الماسة إليها اشتدّت الآن وبعد الانتصارات العسكرية التي أنجزها الحلف السوري الروسي الإيراني على حساب هيمنة الأميركيين وحلفائهم الخليجيين والأتراك والإسرائيليين..
إنما هل يُمكن لفريق مهزوم أن يمنع ترجمة فوز خصمه عليه، على مستوى نتائج سياسية واضحة؟
هذا ما يحدث في سورية حالياً، وأسبابه مرتبطة بإمكانات الأميركيين الذين يشكلون أكبر دولة «قطبية» في التاريخ تجمع بين قوة السلاح والاقتصاد والثقافة والفنون في آن معاً، أي يمتلكون بدائل ووضعيات جديدة في مختلف الظروف الطارئة.
لكن وضعية المهزوم الأميركي الكونية لا تستطيع إلغاء انتصار عسكري. وبوسعها فقط التقليل من وقعه أو إرجائه والمساومة عليه، كما يحدث حالياً.
ضمن هذا الإطار يُمكن فهم، إعادة إحياء مهمة المبعوث الدولي الخاص بسورية دي مستورا.. الذي عاود تنشيط مساعيه بزيارة العاصمة الإيرانية طهران، حيث التقى المسؤولين فيها بهدف إحياء مؤتمرات التفاوض المتعددة الولاءات السياسية إلى حدود التناقض.. يريد توحيد جنيف وآستانة في وعاء جديد يضمّ دولاً عربية وأوروبية جديدة إلى جانب روسيا وإيران وتركيا. بما يعيد بعث النفوذ الأميركي بألوان مختلفة. ولن يتفاجأ أحد من احتمال إصرار الأميركيين على مشاركة بلادهم في إدارة المفاوضات المقبلة إلى جانب الروس وحلفائهم الإقليميين.
ضمن هذه المناخات أيضاً، يجب استيعاب الدعوة الأميركية للرئيس الروسي بوتين بزيارة واشنطن للقاء ترامب الأميركي.. فهل هذه دعوة لتنسّم الهواء في حدائق البيت الأبيض وفي هذا الوقت المتفجّر بين البلدين؟.. إنها وبدون أدنى شك محاولة أميركية مكشوفة لتنظيم الخلاف المتصاعد بين البلدين حول سورية.. في إطار المحافظة على المعنويات الأميركية المهتزة واللاهثة وراء اختراع آليات جديدة للحدّ من الخسائر وتنظيم التراجعات.
ما هو الردّ الروسي ـ السوري ـ الإيراني على ألاعيب واشنطن المكشوفة؟
لجهة سورية، فإنّ ردّها انحصر في الإطار العسكري المستمر بعنف لتحرير أرياف دمشق في كامل اتجاهاتها ومواصلة استعادة بعض البؤر المحتلة من قبل الإرهاب في مناطق حمص وحماة.
ويتحضّر الجيش السوري لمعارك مرتقبة في جنوب البلاد وجنوبها الغربي، حيث بدأ الأميركيون والأردنيون والإسرائيليون بلملمة فلول الإرهاب المهزوم وإعادة تحشيده في مناطق جنوبية قرب الحدود بغطاء إسرائيلي ـ أردني ـ أميركي.. كما تتحضّر سورية لمعركة الشمال مع الأتراك، مع علمها أنها معركة أساسية لحليفيها الروسي والإيراني اللذين أتاحا لتركيا التقدّم عسكرياً في أراضٍ سورية بأقلّ قدر ممكن من الضجيج.
هناك ردّ آخر لا يقلّ أهمية.. وله أبعاده الإقليمية الواضحة، ويتعلّق بقصف الطيران العراقي مواقع للإرهاب ضمن الأراضي السورية، بموافقة مسبقة من دمشق، وهذا إعلان سياسي ينحو باتجاه العمل الاستراتيجي بين بغداد ودمشق، وله مبرراته عند بعض المسؤولين العراقيين الباحثين عن التأييد الأميركي. فالإرهاب يتنقل فعلاً بين سورية والعراق ومطاردته الجوية والبرية بين البلدين، مسألة لوجستية بنظر المبررين. لكنها قضية استراتيجية بالنسبة لمن يعتبر أنّ التنسيق الكامل بين البلدين، أساس لطرد النفوذ الأميركي ـ السعودي ـ التركي من المشرق العربي.
أما إيران فنموذج للدول التاريخية التي تجمع بين القوة والدهاء.. بدليل أنها استقبلت دي مستورا الذي تشكّل زيارته الحالية لها إقراراً أميركياً بالدور الإيراني الهام والمميّز في سورية. وأطلقت في الوقت نفسه، تهديدات لـ«إسرائيل» تتعلّق باقتراب الحرب عليها بلغة عسكرية حازمة لم تخلُ من الصواريخ والايديولوجيا.. كالعادة، وبالكيان الغاصب يعرف بعمق أنّ طهران على حدود فلسطين المحتلة من الناقورة في لبنان وحتى حدود الجولان السوري المحتل.. فهل نسينا حدود قطاع غزة الفلسطيني.. مع فلسطين؟
لذلك يتطابق الردّ الإيراني مع موقف حليفته الدولة السورية، لجهة الحرب المستمرة من جهة والاستعداد للحوار مع المعنيين بالحرب على مستويي السياسة أو الأعمال العسكرية من جهة أخرى. وهذا يعني أنّ الأدوار السعودية ـ الإماراتية والقطرية والأوروبية ليست واضحة في الميدان السوري أو على جبهة النفوذ السوري. والمشاركة في غارة فاشلة لا تعطي الفرنسيين والانكليز نفوذاً سياسياً في الحلبة السورية ولا على طاولات المفاوضات.
يبدو إذاً أنّ محاولات دي مستورا لإعادة تنشيط المفاوضات السياسية من طريق ضمّ دول جديدة إليها، لن تمرّ كما يفترض الأميركيون وتعاني محاولات دي مستورا من انهيار المعارضة السورية واحتجابها شبه الكامل.. فأين هي تلك الشخصيات الكاريكاتورية التي لا تبين أنها لا تمتلك إلا ألسنة تستعملها في إطلاق تصريحات تلفزيونية، يخال مَن يستمع إليها أنها صادرة عن قوى عظمى.
ماذا يُخفي دي مستورا إذاً؟
يعرف الروس أنّ الأميركيين يصلون ليلهم بنهارهم لاختراع آليات تعرقل إعادة تشكيل الدولة السورية الكاملة.. والهدف هنا ثلاثي الاتجاهات والتتابع المرحلي، أولاً منع إعادة توحيد سورية، وتقليص الدور الإيراني المتشعّب إقليمياً والحدّ من الخسائر من الصعود الروسي. لذلك يقصف الطيران الأميركي مع حليفيه الفرنسي والبريطاني بعض المواقع في سورية وعينه على جنوبها، لأهداف متنوعة.
يريد في البداية عرقلة وحدة الدولة السورية، ومحاصرة النفوذ الإيراني في ضواحي الشام، وإقفال الطريق إلى موسكو الذي يعتبر في لحظة إنجازه، إعلاناً صارخاً وحقيقياً بولادة ثنائية قطبية كونية.
لكن الردّ الأميركي جاء واضحاً ومن دون أي لبس أو مواربة.. المطلوب وبسرعة إنشاء كانتونات في جنوب سورية، تجعل الحدود العراقية ـ السورية مراقبة من قبل الفريق السوري الموالي للولايات المتحدة. وهذا يفترض تعاوناً أردنياً ـ أميركياً، مع بعض أنواع المعارضات السورية ذات الأصول الداعشية والعشائرية المرتبطة بالمخابرات الأردنية.. هذه المخابرات التي تمسك الكثير من العشائر العربية المنتشرة بين الأردن وسورية والعراق والمنتمية إلى القبائل نفسها.. قبيلة شمر مثلاً هي نجدية الأصل، طردها آل سعود من ديارها في مطلع القرن الماضي وخصوصاً من إمارتها في منطقة حائل «السعودية حالياً»، وانتشرت في مدى سوري أردني عراقي.. ويحاول الأردنيون اليوم الدفع في اتجاه تشكيل مشيخة لشمر في منطقة دير الزور وحتى الحدود مع العراق.. والأهداف واضحة. فهذه المشيخة مع قاعدة التنف والسيطرة الأميركية ـ الكردية على الجزء الشرقي والجنوبي من مناطق الفرات كفيلة بإقفال الحدود السورية ـ العراقية أو عرقلة الحركة عليها في أسوأ الاحتمالات، فيتحقق بذلك الهدف البعيد، تفتيت سورية وإرباك الطريق إلى موسكو التي تصبح غير آمنة بما يؤدي إلى حصر الدور الروسي في أجواء سورية على شكل غارات طيران.
هذا عن المشروع الأميركي الجاهد لاستحداث منطقة قطع الطرق على إيران وروسيا، بدءاً من مناطق درعا وعلى طول حدود الأردن والعراق مع سورية بعمق داخلي كافٍ للتفتيت.
على مستوى الحلف السوري، هناك بالمقابل إصرار على إنجاز وحدة سورية سلماً أم حرباً، وبالإمكان الدمج بين الأسلوبين، أي التفاوض على وقع هدير المدافع، كما يفعل الجيش السوري حالياً.. بما يكشف أنّ محاولات الأميركيين المتواصلة منذ سنين سبع لا تنفك تتعرّض لفشل تلو الآخر. وتستفيد من فكر إرهابي وهابي يعتبر الناس دمى لا قيمة لها، مقابل تقديس أولياء الأمور الأميركيين والإسرائيليين وبالتالي السعوديين.
أما الوجهة الفعلية لسورية فتذهب بقوة نحو إعادة توحيد المناطق بالقوة العسكرية ومنطق الدولة التاريخية وبالتحالفات المصرّة بدورها على فتح الطرق إلى طهران وموسكو لإدراك العالم الأصفر.