عندما يفتخر «إيهود باراك» بخياره في ذكرى عيد التحرير

روزانا رمّال

ربّما نجح رئيس وزراء «إسرائيل» الأسبق ايهود باراك بتغليب صوت العقل الإسرائيلي المتحسّب لخيارات وجودية، فاختار أن يضع جيشه امام واقعة الانهزام وسلّم الهبوط التدريجي الذي أخذ يغرق فيه الكيان المؤسس على نظرية عقائدية أخذت تنهار ببزوغ فجر عقيدة من نوع آخر قررت المواجهة.

من دون شك، فإن القيود التي رسمها حزب الله بخلفية دينية ووطنية ساعدت أولها ثانيها والعكس صحيح، فتكاملت خطط النجاح باستثمار الأيديولوجيا من اجل المستقبل لا من اجل تثبيت امر واقع ضمن «ستاتيكو» أراد الإسرائيلي فرضه على جنوب لبنان لعشرين عاماً تقريباً فاستطاع أن يحجم الطموح الإسرائيلي الممتدّ الى ما بعد الحدود اللبنانية والذي لم ينتهِ بتوقيع معاهدات سلام مع مصر أو الأردن، ولا هو انتهى اليوم في لحظة ضمان تحالف مع دول خليجية تحت الطاولة وفوقها.

في ذكرى عيد تحرير جنوب لبنان يتفاخر ايهود باراك بهذا الإنجاز ويقول «أنا فخورٌ بإخراج الجيش الإسرائيلي من لبنان ، والذي أوقف الخسائر في أرواح جنودنا»… لقد اعتقدت منذ العام 1985 أنّ بقاءنا في لبنان كان خطأ. وقد جعلنا ذلك في وضع ننشغل فيه بحماية أنفسنا هناك، بدلاً من الدفاع عن «إسرائيل» وأنا سعيدٌ بالقرار الصائب، فقد عانينا من سقوط خسائر كبيرة في لبنان».

يقول باراك أصدق عبارات يمكن أن ينطق بها مسؤول إسرائيلي قرّر التقاعد من دون أن يلغي تجربة أساسية من عمر حياته، وهو يدرك تماماً ان هناك من يدين هذا القرار الذي قوّض «إسرائيل» كيف لا؟ وقد صارت «إسرائيل» امام مخاطر تمدّد حزب الله. وقد تمدّد فعلاً. فذلك الحزب الذي واجهها في جنوب لبنان صار يحدّها من كل اتجاه من الجنوب السوري والعمق والشمال وبحضور في العراق ونفوذ في اليمن وحليف من هنا وهناك ربما كلفت باراك كثيراً هذه الخطوة المرّة، لكن الأكيد أنها كانت ضرورية.

يعترف باراك اليوم، وهي ليست المرة الأولى بصوابية القرار، لكن ضمناً يتحدث عما هو أهم بعد سنوات التحرير. هذه منها، أي أن احتلالاً إسرائيلياً على ارض عربية يجعلها تعمل للدفاع عن نفسها وحماية كيانها بدلاً من التخطيط وتوسيع دائرة النفوذ المطلوب لاستمرارية هذا الكيان، فصار الاحتلال الإسرائيلي أكثر انكفاء مباشرة. وربما كان الدرس الأكبر من الحرب في الجنوب اللبناني وكثرة المعارك وضراوتها وشراسة قتال حزب الله الاستعاضة عنه بوكلاء. فتم اللجوء الى التطرف وولدت مشاريع جبهة النصرة وداعش من رحم هذا الاستنتاج، لأن توسع هذه المجموعات أكان في سورية او في مناطق مصرية حدودية هو في الأساس مشروع تمدّد «إسرائيل» عتيق يعني حماية وجود الكيان القائم على حماية الحدود بالتوسّع.

وفي الوقت الذي يعبر فيه باراك عن فخره بهذا الانسحاب تعلن وكالة سانا السورية أن أحد المطارات العسكرية في المنطقة الوسطى، تعرّض لعدوان صاروخي، وتصدّت وسائط دفاعنا الجوي له ومنعته من تحقيق أهدافه». و«دوي الانفجار هذا سمع في محيط مطار الضبعة بريف حمص الجنوبي الغربي».. هذا واحد من مسلسل اعتداءات إسرائيلية بدأت وستستمر من دون وضع حد لهذه المهزلة الإسرائيلية.

تستحضر هنا في عيد المقاومة والتحرير أصوات محلية ترفع «السيادة» شعاراً. وهي لا تنفك تتجاهل استباحة الطيران الحربي الإسرائيلي الأجواء اللبنانية التي تبين أن كل غارات «إسرائيل» على سورية كانت فيها ممراً آمناً لإتمام العمليات، يستحضر في عيد التحرير ضعف لبنان ومؤسساته الممزقة وغياب التعاون الكامل بشأن بناء جيش قوي مسلح ومحصّن من اعتداءات من هذا النوع ويحضر أيضاً جزء لا يتجزأ من شكل الاستراتيجية الدفاعية المطلوبة من أجل الوقوف امام وحشية هذا العدو.

يقف لبنان عاجزاً أمام تحليق الطائرات الحربية الإسرائيلية فوق اراضيه وتخرج منه أصوات تنادي بنزع سلاح حزب الله. هذه الأصوات صارت فعلاً مشتبهاً بها بظل نماذج التعدي الإسرائيلي بكل عنجهية، ليس خياراً او قدراً أن يبقى في لبنان سلاح غير سلاح الجيش اللبناني، لكنه ليس قدراً أيضاً ان يتحمّل اللبنانيون أصواتاً تصب في خانة رفع معنويات العدو في وقت يتفاخر رئيس وزرائه الاسبق بالخروج من المستنقع اللبناني معترفاً بقوة حزب الله وبالخسائر التي تكبّدها كيانه.

ربما لا يفيد كثيراً أن تتوقف أصوات النشاز عن مهاجمة سلاح حزب الله، لكن يفيد أن تتعرى بصمتها المطبق حيال دعوات الأمم المتحدة للنظر او الاحتجاج على الطلعات الجوية الإسرائيلية. وإذا أرادت هذه القوى مجاراة السيادة بالسيادة، فعليها تقديم ما يقنع اللبنانيين قبل أي شيء.

عيد المقاومة والتحرير يشكّل بالنسبة للبنانيين إنجازاً كبيراً استطاعت بموجبه الدولة اللبنانية استرجاع جزء كبير من أراضيها الأساسية التي ترتكز عليها اليوم بسكانها ومواردها الحيوية وببيئة حاضنة لخيار استطاع أن لا يثير حفيظة المحيطين به بعد أن أدركوا أهمية هذا الخيار بوجه الإسرائيليين.

أهم من إحياء ذكرى عيد التحرير عام 2000 هو الوقوف عند النتائج السياسية التي لا تزال تعد الأهم منذ تحقيقه. فخيار غزو العراق ما كان ليتمّ لولا انكشاف «إسرائيل» أمام معادلة التراجع في لبنان. وهي الهزيمة الأولى لها، فاستجلبت الأميركي الى المنطقة بخيارات النفط والأمن بعد أن أضاءت تل أبيب الضوء الأحمر لأمنها الحيوي. ولا تزال محاولات غزو المنطقة بأشكال التطرف أو نهب ثرواتها واقعة ضمن خيارات تصب في حماية «إسرائيل» من مخاطر حقيقية ولدت بجوارها منذ وقعت هذه الهزيمة الأولى التي أثبتت إمكانية كسر الهالة الإسرائيلية في عيون شعوب المنطقة.

اترك تعليقاً

Back to top button