الأميركيون يبحثون عن بديل للجنوب السوري
د. وفيق إبراهيم
يُطلق حكام الخليج علامات استفهام حول الموافقة الأميركية والإسرائيلية والأردنية حول انسحاب محتمل لقواتهم من المناطق الحدودية في الجنوب السوري.
ويجهلون أنّ الحرب موازين قوى بدأت ترجَح بوضوح لمصلحة الجيش السوري وحلفائه منذ تحرير أرياف الغوطة الشرقية والغربية المؤدية «طبيعياً» إلى درعا وصولاً إلى الأردن من جهة، ومن القنيطرة إلى أسفل الجولان السوري المحتل، من جهة ثانية، ومن بادية الشام إلى قاعدة التنف الأميركية التي تؤمّن نقطة التقاء بين الأردن وسورية والعراق من جهة ثالثة..
الحرب إذاً أولها معارك وآخرها سياسة، إلاّ عند الأغبياء الذين يريدون من الآخرين أن يخوضوا معاركهم مكتفين بنشر المال ومتوقعين نتائج سياسية لمصلحتهم.
لذلك تنعقد المفاوضات الثلاثية في عمّان بين روسيا وأميركا والأردن لتأمين انتشار هادئ للجيش السوري في المناطق مع محاولات فاشلة سلفاً لتأمين مصالح نسبية للطرفين الأميركي والأردني.
يجب هنا الإقرار بأنّ التحالف السوري ـ الإيراني أثبت عمقه الاستراتيجي بعد الألاعيب الأميركية ـ الإسرائيلية لتصديعه، كاشفاً أنّ اهتمامات طهران متركّزة حول استرداد الدولة السورية سيادتها وتعزيز مناعتها. وهذا لا يكون إلاّ بنشر قواتها، خصوصاً عند النقاط الحدودية ما يكشف أنّ المسؤولين الإيرانيين يعرفون بدقة أنّ مجابهة النفوذ الأميركي ـ الإسرائيلي تتطلب أولاً إعادة بناء الدولة السورية.. وهذا واضح من الخطة الأميركية المستمرّة منذ ست سنوات لتدميرها وتفتيتها ولا تزال تحاول بسرابيل جديدة..
روسيا بدورها تعرف أنّ عودتها إلى نظام إنتاج القرار العالمي.. تتطلّب «سورية» قوية بنظام أسدي متمكّن أثبت جدارته بالتعامل مع كلّ أنواع التطورات على أساس استشراف عميق لتطورات الأوضاع، اكتسبها من خبرات تاريخية.
ينعقد إذاً لقاء عمّان وسط قبول إسرائيلي بالإكراه بانتشار الجيش السوري عند حدود «جولانه المحتلّ» إلى جانب الشرطتين العسكريتين الروسية والسورية، في أنحاء درعا، ووقف كلّ أدوار المخابرات الأردنية العاملة بين عشائر المنطقة تمويلاً وتدريباً وتسليحاً.
ماذا تعني هذه المواقفات، لا يمكن تفسيرها إلا باضطرار المحور الإسرائيلي ـ الأردني للتخلي عن كلّ أنواع المعارضات في منطقة درعا.. لأنّ انتشار الجيش على الحدود جنوباً وتطويقه مناطق المعارضة شرقاً وشمالاً وغرباً.. إنما ينهي وضعها من دون قتال وإطلاق نار.. وذلك بسبب القطع المرتقب لخطوط تموينها وتذخيرها وتسليحها.. لعلَّ أهالي درعا هم مستعدّون للفتك بهذا الإرهاب الجاثم على صدورهم بذرائع لم تعد تنطلي على أحد.
هناك قرائن تثبت أنّ حكام الأردن هم أكثر المرحّبين بالاتفاق المرتقب على جنوب سورية.
وذلك لأسباب داخلية ترتبط بانهيار النظام الاقتصادي الأردني.. وما الاضطرابات الشعبية المحتجة على الضرائب ورفع أسعار المحروقات إلا بداية انتفاضات شعبية، قد يكون مداها عميقاً في النظام السياسي الأردني، خصوصاً أنها اندلعت على الرغم من الخدمات العسكرية والتنظيمية والسياسية التي يوفرها نظام عبدالله الثاني لكلّ أنواع الإرهاب في جنوب سورية.. فلماذا تقطع السعودية والإمارات المساعدات عن عمان التي عكست مصالح الأميركيين والخليجيين بدقة.
قد يكون الأردنيون توصلوا إلى قناعة راسخة تؤكد أنّ أموال التسوّل المتعلقة بالتبعية السياسية لا تُطعِم شعباً. وهي رهن الذي يدفعها.. فإذا ما تضايق ولو لمرة واحدة فقد يقلّصها أو يقطعها دفعة واحدة. هذا ما يشجّع الأردن على المطالبة بفتح حدود سورية معه لتحسين التبادلات الاقتصادية من جهة وتشجيع مليون سوري نازح إليه، للعودة إلى مناطقهم وتخفيف الضغط الاقتصادي على عمّان. فتتأمّن بذلك موارد دائمة وتنخفض معدلات البطالة التي لا تنفك ترتفع. علماً أنّ الشعب في الأردن وسورية واحد في المنبت والتاريخ والجغرافيا والاقتصاد.. فكما أنّ هناك حوراناً سورية، فهناك «حوران أردني» اقتطعه المحتلّ البريطاني وألحقه بدولة الهاشميين. لكن العلاقات بين عشائر المنطقتين متواصلة هناك. إذاً موافقة إسرائيلية على خطة جنوب سورية. سببها محاولة «إسرائيل» الاحتماء من الأدوار المستقبلية للمقاومات. وهناك أيضاً ترحيب أردني حارّ للأسباب الاقتصادية والاضطرابات الشعبية، إلى جانب سبب كامن.. يخشاه دائماً الهاشميون، له علاقة بنغمات إسرائيلية خليجية حول تحويل الأردن وطناً بديلاً للفلسطينيين مع قسم بسيط من الضفة الغربية التي تصرّ «إسرائيل» على تسميتها «بيهودا او السامرة». وهذا يعني إضافة تبرير تاريخي «مزعوم» للاستيلاء على القسم الأكبر منها.. وهي المعروفة تاريخياً بأنها أراضي «كنعان» والفلسطينيين المنحدرين منهم.
لكن ماذا يحمل الأميركيون لمفاوضات عمّان وهم الطرف الأكثر تأثيراً؟
الدولة الأميركية عظمى، لكنها براغماتية وقارئة بعمق لموازين القوى على غير الطريقة البدوية. فواشنطن تعرف أنّ الجيش السوري تمكّن من «إنقاذ معظم سورية» بوحدته أولاً وتحالفات دولته ثانياً. لأنّ انهيار الجيش كان سيؤدّي إلى انهيار الدولة، فكيف تقاتل التحالفات؟
لذلك فإنّ الأميركيين عندما يشعرون بتراجع مشروعهم السوري، كما يحدث حالياً، يبحثون عن آليات جديدة للاستمرار تؤدّي إلى استمرار مخططهم بأساليب جديدة.
بالاستناد إلى ما سبق، يتبيّن أنّ الهدف الأميركي من قاعدة التنف ذو شقين: الأول قطع الطريق السورية مع الأردن والعراق. أما الثاني فهو الإشراف على التحرك العسكري للمنظمات الإرهابية. وإذا كان الجزء الثاني يتراجع مع الهزائم، فإنّ القسم الأول استراتيجي بعمق لأنّ الحدود المفتوحة بين سورية والعراق، تنعش البلدين اقتصادياً وتعزّز وضعيهما عسكرياً وإقليمياً على حساب الأدوار السعودية والتركية والإسرائيلية.
فتفتقت عبقرية الأميركيين عن البدء ببناء قاعدة «تنف» جديدة داخل الأراضي العراقية بمواجهة جغرافية مع القاعدة الحالية وغير بعيدة عنها. أيّ أنّ بوسعها أداء وظيفة قطع الطريق بين سورية والعراق. وهذا يعني وجود استعداد أميركي للتخلّي عن قاعدة «التنف»، لكن ما هو المقابل؟
مفاوضات عمّان لن تخلو من الحدّة.. لأنّ الأميركيين يصرّون على ما يشبه «المقايضة» بين غرب سوري على مقربة من الحدود الشمالية لسورية وحتى الحدود الجنوبية من الجولان وحتى دير الزور. أما المقابل الذي تريده واشنطن فهو مشروع كردي أميركي شرق الفرات حتى مشارف الاحتلال التركي في الشمال، حيث يحاول الأميركيون عقد اتفاقات ثنائية مع الأتراك في منبج.
وبذلك يحافظ الأميركيون على مشروعهم من زاويتين: تفتيت سورية بين «دولة» وكرد ضمن المشروع الأميركي وتركي بواسطة الاحتلال العسكري التركي المتغطي «بجيش حر مزعوم» ومنظمات تركمانية أكثر شبهة وإخوان مسلمين تناثروا كورق الخريف الذابل.
لهذه الأسباب، كان وزير الخارجية السوري المعلم شديد الوضوح لجهة مشروع الدولة السورية:
أولاً الإصرار على تحرير كلّ منطقة سورية محتلة، ودعوة الكرد للتفاوض مع الدولة السورية، وإلا فإنها قد تلجأ إلى قتالهم.
ثانياً إفهام الأميركيين أنّ المساومات ممنوعة.
ثالثاً، إعلان صمود التحالف الاستراتيجي مع إيران غير القابل للاهتزاز بأيّ نوع من التحريض الخليجي، الإسرائيلي والأميركي، لأنه تحالف استراتيجي مستمرّ عسكرياً وسياسياً واقتصادياً.
رابعاً، التمسك بالدور الروسي الاستراتيجي الموازن للبربرية الأميركية.
خامساً: إفهام تركيا أنّ أوان المناطق السورية التي تحتلها لم يَعُد بعيداً.
وأخيراً، فإنّ المعلم أفهم في رسالة منه إلى اللبنانيين أنّ سورية هي الحضن الوحيد القادر على التعاون معهم، بما يفيد الدولتين خصوصاً أنّ الحدود مع الأردن والعراق قاب قوسين أو أدنى من التشغيل، وهذا يعني العودة التدريجية إلى الازدهار.
بأيّ حال، لن يكون لقاء الأردن سهلاً، كما يتوهّم البعض.. فقد يشهد تصعيداً وتراجعاً تبعاً لموازنات القوى المحلية والاستراتيجية. لكن الأكيد هو أنّ سورية عادت رقماً صعباً في صراع الأمم على امتلاك وسائل القوة.