أربع دول عربية تحت مبْضع التفكيك!
د. وفيق إبراهيم
التهديد ليس حديثنا، لكنه تراجع لمصلحة اعتماد «الفوضى الأميركية الخلاقة» التي كان مأمولاً منها اجتياح القسم الأكبر من الشرق الأوسط وبعض أنحاء العالم الإسلامي بأقلّ كلفة ممكنة.
بيد أنّ هزيمة الإرهاب في سورية والعراق وتماسُك دولتيهما خلافاً لكلّ التوقعات الاستخبارية، يدفعان دول التخطيط إلى اعتماد آليات جديدة يفترضون أنها قادرة على تلبية المطلوب.
نحن إذاً في قلب مرحلة العودة إلى الابتزاز السياسي باستعمال أسلوب حجز المياه العابرة عن ثلاث دول عربية، هي العراق وسورية ومصر، ومنع لبنان وسورية من الاستفادة من أنهار الحاصباني والوزاني وبانياس وينابيع الحمّة التي تشكل خزان نهر الأردن.
ماذا يجري؟
صحا العراقيون في اليومين الماضيين على جفاف كبير يضرب نهر دجلة، المشكّل واحداً من نهريها الخالدين إلى جانب الفرات.
وهذان النهران عابران للحدود، ينبعان من تركيا، لكن الفرات يدخل سورية فالعراق عند مصبّهما في شط العرب. ويلعبان دوراً حيوياً وحصرياً بالنسبة للعراق ولسورية مُسهمين في تطور البناءات الاجتماعية في العراق خصوصاً، وسورية نسبياً، لأنها لا تستفيد إلا من الفرات على الرغم من أنّ دجلة يحاذي حدودها مع تركيا في مناطق قريبة. وبسرعة وجد العراقيون سبب اتجاه دجلة إلى الجفاف، متبيّنين أنّ عشرات السدود تحجز مياه النهر في وقت كان العراق منهمكاً بمحاربة الإرهاب. والأخطر أنّ سد «اليسو» التركي الحديث راكم خطورة الأزمة بحجزه كميات كبيرة من مياه دجلة، بحجة أنه سدٌ جديد من المفروض تعبئة خزاناته دفعة واحدة حتى يتمكّن الأتراك من تجزنة التعبئة في مراحل لاحقة.
ما يفعله حكام أنقرة يخالف المعاهدات التي تنظم اقتسام المياه العابرة والأعراف السائدة. هذا عدا الاتفاقات الرضائية التي يستطيع بلد غني بالمياه أنّ يترك كميات كبيرة من مياه نهر ينبع من أراضيه نحو دول أخرى. لكن مثل هذه التدابير تبقى رهناً بالعلاقات السياسية الحسنة بين البلدين المعنيين.
لقد نظمت تركيا علاقاتها المائية بالعراق وسورية على أساس القوة من جهة، وعدم حاجتها الحيوية إلى مياه النهرين من جهة ثانية، لكنها استفادت من اندلاع الاضطرابات فيهما، لمباشرة أكبر عملية استيلاء مكشوف على نهري دجلة والفرات تدريجياً عبر بناء أكبر منظومة سدود حاجزة عليهما.. ولأن سورية والعراق لا تزالان حتى اليوم منهمكتين بأزمتيهما الداخلية، عطفاً على تخلّي الفلاحين عن الزراعة في مناطق التوتر فيهما وتناقص الحاجة إلى مياه الشرب بسبب النزوح إلى خارج البلدين.. لهي من العناصر الأساسية التي حالت دون ملاحظة جرائم المياه التركية.
إنّ منظر الجفاف في دجلة أكبر من المعتقد.. فهناك حضارات تاريخية متتابعة ارتكزت على بناءات اجتماعية متراكمة، ما كانت لتستقر لولا الوفر في المياه. وهذا ما يميّز العراق عن السعودية والكويت وقطر وباقي البلدان، التي لم تشهد حضارة قبل الإسلام. فيما يزخر العراق بمراحله المتحضرة. وهذا يعني أنّ العجز عن إيجاد حل حاسم مع تركيا قد يؤدي إلى تصحير العراق وذهابه نحو تحلية مياه البحر كحال جيرانه أو تفككه.
والأمر ليس بريئاً على الإطلاق.. فلماذا تحجز أنقرة مياه دجلة بعد تطوّرات عدة: تراجع دورها في العراق عموماً والتزامن مع تشكيل الحكومة الجديدة فيه. وإصرارها على الاستمرار في احتلال قسم من أراضيه، وتلويحها بالتحضير لهجوم يستهدف الكرد العراقيين المؤيدين لحزب العمال الكردستاني أوجلان ، على حدّ زعمها.
أما لجهة سورية فهو على الدرجة نفسها من الخطورة.. فهناك حجز كبير لمياه الفرات التركي المنبع والسوري والعراقي المعبر والمصب.. والفرات وروافده يرويان سهول شرق الفرات الزراعية، وله دور في تأمين مياه الشرب.. لكن سورية التي تجتاحها الفوضى الخلاقة منذ سبع سنوات، تأثرت بحركة نزوح كبيرة من سكانها إلى الخارج وتوقفت الزراعة فيها نسبياً.. فلم يتبيّن للمتخصّصين مدى التراجع في مياه الفرات الداخلة إلى سورية.
وللتذكير فقط، فإنّ دمشق التي يمرّ نهر دجلة من مناطقها الحدودية الملاصقة لتركيا لا تقتطع منه أيّ كميات حرصاً على الحصة العراقية.
مصر بدورها أيضاً تحت مبضع الجراح الأميركي ـ الإسرائيلي الذي يباغتها بثياب أفريقية من إثيوبيا. فما أنّ تستفيق مصر من كارثة حتى تهبَّ عليها أخرى. فسدّ النهضة الذي يشارف على الاستكمال، بنته أثيوبيا بغطاء إسرائيلي ـ أميركي، وتأييد سوداني.. والذريعة أنّ مصر تأخذ أكثر من حصتها من مياه النهر الذي يجتاز خمس دول أفريقية قبل وصوله أرض الكنانة.
وما ينظم مياه النيل العابر للحدود هو سلسلة معاهدات عقدها المستعمر البريطاني مع كلّ الدول المتشاطئة، ونصت على منع استحداث أيّ إنشاءات على طول مجرى النهر من منبعه وحتى الحدود السودانية ـ المصرية من شأنها إلحاق ضرر بكميات المياه الذاهبة إلى مصر.. وهذه المعاهدات موجودة في الأمم المتحدة ومصدّقة. بما يعني أنّ سد النهضة وما يشابهه من الإنشاءات تحول المعاهدات الموقعة بين البلدان المتشاطئة، دون إشادتها إلا بعد موافقة الدولة المصرية. وهذا ما لم تلتزم بها إثيوبيا بتغطية علنية من واشنطن وتل أبيب.. وهذه الأخيرة تشترط، كما تقول بعض الأوساط، تزويدها بقسم من مياه النيل لتتوقف عن دعم أديس ابابا.
لجهة لبنان وسورية، فإنّ مياههما العابرة للحدود تجتمع باسم جديد هو نهر الأردن الذي تستثمره «إسرائيل» بكامله وتمنع بلدان المنبع من الاستفادة من المياه. فهناك ينابيع الحمّة ونهر بانياس والمتساقطات المائية في الجولان السوري المحتلّ تصبّ في بحيرة طبريا.. إلى جانب نهري الوزاني الذي يلتحم مع الحاصباني ضمن الأراضي اللبنانية مواصلين عبورهما نحو طبريا في فلسطين المحتلة، وهناك تتجمّع الفروع لتعاود الانطلاق باسم نهر الأردن.. و»إسرائيل» التي تسطو أيضاً على المياه السورية منذ احتلال الجولان.. تمنع اللبنانيين أيضاً من استثمار ليتر واحد من مياه نهريهما في الوزاني والحاصباني.. هنا تندّر المتخصصون بأنّ لبنان يستفيد منهما فقط في صيد السمك وبناء المقاهي واستجلاب السيّاح وتنظيم حفلات موسيقية وزجلية وليس أكثر..
ولا يجب إخفاء الشهية الإسرائيلية لضمّ نهر الليطاني، بطرق متعددة، منها سحب مياهه نحو الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة.. وهو حلم قضت عليه المقاومة اللبنانية في 2000 و2006.. لكن هذا لا يعني وضع خاتمة نهائية لموضوعه.. فلنتذكر دائماً تلك الرسالة الشهيرة من بن غوريون الإسرائيلي إلى الرئيس الفرنسي ديغول جاء فيها: «أرجوك وفي اللحظة الأخيرة أنّ تؤيد ضمّ الليطاني إلى دولة إسرائيل».
وهل نسي اللبنانيون عدد المرات التي حاولت فيها شراء نهر الليطاني أو استئجاره على الأقلّ؟
ما هي إذاً تداعيات حجز المياه عن مصر: يكفي استحضار ما قاله أبو التاريخ الأفريقي هيرودت عن أنّ «مصر هبة النيل» و»لولا النيل لكانت مصر صحراء جرداء».
وكيف يستقيم أمر العراق الاجتماعي دولة ما بين النهرين من دون دجلة والفرات؟ وهل بإمكانه تلبية الحاجات المائية الضرورية لسكانه البالغين 35 مليون نسمة؟
ـ بالاستنتاج يتبيّن أنّ هناك استهدافاً بأشكال جديدة للعراق وسورية ومصر ولبنان، يرمي إلى تدمير الكيانات السياسية، بالتفتيت والاضمحلال.. وخصوصاً بالنسبة للعراق ومصر اللتين لا تمتلكان موارد مائية إضافية غير الأنهار المستهدفة في النيل ودجلة والفرات. أما سورية فتستقبل نسب أمطار مقبولة ولديها أنهار أخرى كنهر العاصي اللبناني المنبع والسوري المجرى.. ويصبّ في الاسكندرون السوري المحتلّ من تركيا.
وإذا ما أضفنا أنّ البلدان الأربع المستهدفة تملك أعلى معدل مواليد في العالم ومصادر مياه غير متجدّدة قابلة للنقصان الدائم، يظهر عمق المشكلة وطابعها البنيوي.. وقدرتها على التفكيك التدريجي للبنى الاجتماعية الكبرى تحت ضغط النقص الكبير في المياه.
فهل يستطيع هذا النقص تأدية دور الفوضى الخلاقة في تدمير المجتمعات؟ لا وجود لدول من دون مصادر مياه، قد تشكل تحلية مياه البحر حلاً مؤقتاً.. لكنها مع دول غير نفطية مثل لبنان ومصر وسورية ودول شمال أفريقيا، لن تكون إلا المدخل إلى التفكيك الاجتماعي وبالتالي السياسي وصولاً إلى تفجير الكيانات السياسية.
فهل نحن عشية تغييرات كبرى تشابه مرحلة الحرب العالمية الأولى؟ بالنسبة للمستهدفين الحلّ هو في الاتحاد ووحدة الموقف وفرض العودة إلى المعاهدات الدولية والأعراف التاريخية.. وهذا يستلزم شيئاً من الشدّة.