الصين رابحٌ كبيرٌ مستتر من قمة سنغافورة!

د. وفيق إبراهيم

بعيداً عن التهريج السياسي الذي يتسمُ به عادة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، تدفعُ سطحية نتائج قمة سنغافورة التي جمعته بالرئيس الكوري ـ الشمالي كيم جونغ أون إلى الغوص في أهدافها لتحقيق قراءة هادئة ودقيقة لها.

فليس معقولاً أنّ يختتم الرئيسان لقاءهما بعد أربعين عاماً من العداء السياسي المتشنّج الذي كاد يتدحرج إلى حرب، بالإعلان عن اتفاق سياسي كامل يقدم على إزالة السلاح النووي الكوري ـ الشمالي، وتوفير بنيته التحتية، مقابل وقف المناورات العسكرية السنوية التي يجريها نحو 32 ألف جندي أميركي، في كوريا الجنوبية بشكل مستفز لشقيقتها الشمالية التعهّد الأميركي بتبنيها اقتصادياً.

لا بدّ في المنطلق من تحديد الوضعية الداخلية لبنوم بنه وارتباطاتها الجيوبولتيكية. لقد شكلّت دائماً ومنذ انشطار الكوريتين، رأس حربة صينية في مواجهة النفوذ الأميركي في شبه الجزيرة الكورية جنوب شرق آسيا. كما استفادت من التوازن السوفياتي ـ الأميركي في ذلك الوقت. وهذا يعني حيازتها على غطاءين هامين، الصيني البنيوي بسبب التجاور الجغرافي والروسي في لعبة الصراع بين الثنائيات الدولية في حينه، وقبل انهيار الاتحاد السوفياتي في 1989. خلال هذه المرحلة أدت كوريا الشمالية دور المشاغب المعترض طريق النفوذ الأميركي بالكثير من الصياح الأيديولوجي الدائم والمتكرّر. لكنها تمكّنت من اقتحام صناعة سلاح الصواريخ البالستية بمعونة صينية، وأميركا الجنوبية بغطاء من مرجعيتها الصينية وعدم ممانعة من راعي الثنائية الروسي.

ما عرقل هذا الدور الكوري كان انهيار السوفيات. وهذا تاريخ مفصلي، منح الأميركيين إمكانية عرقلة دور «المشاغبة» الذي كانت تؤديه بنوم بنه بل ذهب أكثر.. طوقها اقتصادياً قاطعاً علاقاتها بكل ما كانت تمتد إليه من حصار إيران، وحروب سورية والعراق وانتهاء العصر الماركسي ـ الشيوعي عند الروس، وتراجع العلاقات مع كوبا وفنزويلا بسبب الهيمنة الجيوبولتيكية.

هذا ما دفع إلى ما يشبه الانهيار الاقتصادي الكامل في كوريا الشمالية، عزّزت تفاقمه السياسات الأميركية التي تعمدت تنفيذ حصار مدروس حولها. بالاشتراك مع كوريا الجنوبية واليابان. بيد أنّ طبعة نظام كيم جونغ اون الصارمة والمعسكرة، نجحت في امتصاص الجوع الداخلي باستثارة الشعور الوطني الرابض حول عدوانية أميركية وكورية جنوبية، ويابانية، تريد استعمار كوريا الشمالية.. ما منح نظامها قوة هائلة عن شعبه الذي كان يبدو في الصورة الإعلامية وكأنه آلات ضاحكة شديدة الانضباط. لكن الإعلام الدولي المتسلل خفية إلى بنوم بنه كان ينقل أحياناً صوراً للانهيار الاقتصادي المتفاقم.

والذي خفّفت إدراكه حافة الانهيار المساعدات الصينية فقط.. لكنها لم تكن بنيوية، وأدّت دور المسّكن من آلام الذي لا قدرة له على العلاج النهائي.

وببراعة اعتبر الرئيس كيم أنّ إنقاذ نظامه يتطلب حركتين: تصعيد المشاغبة على النفوذ الأميركي، ودفعُ الصين إلى إيجاد حل ينقذُ العلاقات الدولية، ونظامه في آن معاً.

هذا ما دفع كيم جونغ اون، إلى تسعير الخطاب السياسي مع ترامب إلى حدود تهديده باستعمال السلاح النووي وثورة صواريخ كيم البالستية التي كان يقول إنها تحمل رؤوساً نووية.. قدرتها على إصابة المدن الساحلية الأميركية المقابلة لآسيا.

أما ما منح كيم مصداقية أقواله فهو السُعار الترامبي.. المسرحي، الذي وضع العلاقات الدولية على شفا تفجير كان يراوح بين أعمال التهريج حيناً والتخوّف من تحوله مسألة جدية حيناً آخر.

لقد بدا مشهد الصراع الكوري ـ الأميركي كالآتي: كوري يبحث عن الدعم لمنع نظامه الاقتصادي من انهيار تراجيدي، و«أميركي» يهرب إلى الخارج باحثاً عن انتصارات وهمية لتلميع صورته المتزعزعة داخلياً من تهريج رئيسه ترامب الذي يضرب في كل اتجاه ولا يفرّق بين صديق ومنافس.. بشكل عادى فيه ربع بلاده الآخر كندا وربعه التاريخي أوروبا، مؤذياً جارته البائسة المكسيك.. ولم تنفع آلاف مليارات الدولارات الخليجية دون معاملته بلدانها بازدراء وفوقية.

وهذا ما كان يدفع إلى الاعتقاد أنّ الصراع الأميركي ـ الكوري، هو حاجة أساسية يستعملها ترامب لتلميع صورة «الغبي» التي يتّسم بها في العلاقات السياسية. والدليل أنه يتعامل مع رؤساء الدول كالسماسرة ورجال البورصة.

لكن هناك أسبابٌ خفية امتصت التوتر الأميركي ـ الكوري ببراعة.. وأصحابها هم الصينيون الذين التقوا بحليفهم كيم مرتين قبل عقد قمة سنغافورة. وأجروا معه مباحثات عميقة لم يعلنوا مضمونها، إعلامياً، بل اتضحت من خلال التغيير الكامل والمفاجئ في سياسات حليفهم الكوري الشمالي.

لا بدّ أنهم أقنعوه من خلال التحديد العلمي لحاجات كوريا الشمالية بتهدئة الصراع مع ترامب.. هذا الصراع الذي ارتدى شكل قتال على «حافة هاوية» قد تكون خطيرة جداً مع رئيسين متورّمَي الرأسين، ينجذبان إلى الدعاية الإعلامية التي لا تلاحق إلا الغريب من الإعمال.. وترامب وكيم بطلاها.

ولأن كيم اقتنع أنه جزء من نظام الحماية الصيني مستفيداً من الصعود الروسي، وغير محتاج لكل هذه الضوضاء النووية التي لن يستطيع أبداً استخدامها في حرب فعلية.. اقتنع مع الصينيين، أنّ العلم النووي أصبح جزءاً عادياً من إمكانات كوريا الشمالية، وبإمكانها ببضعة أشهر فقط العودة إلى تصنيعه.. إذا ما انكفأ الأميركيون عن الاتفاق معهم.. كما فعلوا مع إيران.

والفارق بين كوريا الشمالية الآن وإيران منذ 1980، أنّ الأولى تشكل امتداداً صينياً أساسياً، وتتمتع برعاية روسية.. لكن السياسة الأميركية ابتدأت منذ ثمانينيات القرن الماضي بمعاقبة إيران بموافقة كاملة من مجلس الأمن الدولي بما فيه روسيا والصين.

لمجمل هذه الأسباب أعلن كيم جونغ هذا التحوّل السياسي الذي رعته مسبقاً الدبلوماسية الصينية بلقاءات غير علنية مع إدارة ترامب، فبدأ المشهد «سوريالياً» غير قابل للتصديق، وكاد المعلقون يتوقعون اندماجاً بين الكوريتين على أساس النفوذ الأميركي.

بيد أنّ نتائج القمة السنغافورية بدت وكأنها ربط نزاع بين فريقين يتبادلان المديح والثناء، لكنهما لا يصدّقان بعضهما في العمق.

فترامب عاد إلى بلاده مع عزف إعلامي عن ترويضه كوريا الشمالية، بيوم واحد على أنّ تتولى لجان مشتركة «التفاوض». وهنا تكمن المشكلة. وكيم بدوره قفل راجعاً إلى موطنه على أمل تحقيق نجاحات اقتصادية تحول دون انهيار نظامه. أما الحقيقة فهي في وادٍ آخر.. لأن الصينيين الذين يُطلق عليهم ترامب لقب «القردة الصفراء»، شعروا وكأن تفجير الصراع الأميركي ـ الكوري لعبة مدبّرة للحدّ من صعودهم الاقتصادي وهم يحتاجون إلى أقل من عقد من الزمن للتربّع في المرتبة الاقتصادية الأولى على حساب الأميركيين. ففضلوا بناء حالة «ربط نزاع» تواصل فيها سلعهم اجتياح العالم بالسعر الرخيص والنوعية القابلة للتحسّن. وهذا لا يستمرّ بحالة حربٍ بل بأوضاع عادية، تسمح لهم بمساعدات إضافية لكوريا.

هذه هي الأسباب التي أتاحت لقمة سنغافورة بالانعقاد.. أما النتائج الفعلية فهي عند الأميركي الذي يعي الأبعاد الاقتصادية الصينية. ومن الطبيعي أنّ يخترع معالجات تبقي على الأوضاع الجيدة في شبه الجزيرة الكورية، على قاعدة ابتكار آليات لمكافحة اجتياح السلعة الصينية للعالم بأساليب الحمائية وإلغاء العولمة والعودة إلى إقفال الحدود في وجه الاقتصادات الضاربة. وهذا يجعل من العلاقات الكورية ـ الأميركية مرتهنة للمدى الذي تتجه نحوه العلاقات بين «القردة الصفراء» وطبقة السماسرة الأميركيين.

اترك تعليقاً

Back to top button