شرقُ سورية ليس للمقايضة.. وكذلك اليمن

د. وفيق إبراهيم

الهجومُ الخليجي ـ الغربي الواسع النطاق على الساحل الغربي لليمن والهجمات الإرهابية على الجيش السوري في بؤر محدودة من البادية.. ليست مجرد أحداث منعزلة ومفكّكة.

الأسباب هنا واضحة تبدأ من التزامن المريب بين تراجع النفوذ الأميركي في سورية ولبنان والعراق، واندلاع الأعمال العسكرية في اليمن وبعض أنحاء سورية.. كما أنّ المعتدين هم أنفسهم في البلدين. هناك الأميركيون الداعمون لاعتداءات الإرهابيين على الجيش السوري في منطقة قاعدة التنف التي يحتلها الأميركيون للسيطرة على نقاط الالتقاء بين الحدود الأردنية والعراقية والسورية. وتؤكد روسيا أنّ أقمارها الاصطناعية ترصد يومياً وجود آلاف الإرهابيين داخل «التنف» وخارجها، يتحرّكون بإشراف عسكري أميركي كامل. هذا إلى جانب الاحتلال الأميركي المباشر لشرق سورية وشمالها بالتنسيق مع الاحتلال التركي.

وللسعوديين الحصة الأكبر. فإلى جانب دعمهم عشائر شرق سورية ودرعا بعد تراجع دورهم في المناطق الشمالية لمصلحة الأتراك، يضغطون حالياً على الأردن لوقف اندفاعته نحو فتح حدوده مع سورية.. وهل يمكن التغافل عما قاله رئيس وزراء قطر السابق حمد بن جاسم من أنّ بلاده مع السعودية أنفقتا نحو مئتي مليار دولار على دعم تنظيمات في سورية تبيّن أنها إرهابية في ما بعد، كما زعم.

هناك أيضاً الإمارات بأدوارها الواضحة، وفرنسا التي تحتلّ أجزاء من شرق سورية وشمالها.. أما «إسرائيل» فغاراتها الجوية على الجيش السوري لم تتوقف وتشمل أحياناً مواقع لحزب الله. ويساند هؤلاء قوات بريطانية تحتل أجزاء من شرق سورية ومناطقها الشمالية بتنسيق كامل مع الأميركيين.

إنّ كلّ هذه القوى تجتاح اليمن أيضاً. فهل هي محض مصادفة أم تدبير من ولي أمر البيت الأبيض والعالم الغربي والخليج و«إسرائيل»؟ فكيف يمكن أن يكون هذا التزامن في الهجوم على اليمن، منفصلاً عن تراجع الأدوار العسكرية، وبالتالي السياسية للمحور الأميركي ـ السعودي ـ الإسرائيلي في سورية؟

تقود السعودية تحالفاً دولياً أميركياً كاملاً يهاجم اليمن منذ 3 سنوات وهذا ما لا ينكره أحد. يتقدّمُ تارة ويتراجع تارة أخرى.. ولا يقتل إلا المدنيين، مستهدفاً التراث الحضاري والثقافي والعلمي لليمن.

ما يُمكن ملاحظته هنا، أنّ هذا التحالف يضمّ السعودية والإمارات بالعنوان العريض بخلفية أميركية وإسرائيلية تنكشف حيناً وتتوارى أحياناً، تماماً كالدور المصري. لكن الفضيحة هو ما انكشف في اليومين الماضيين عن إسهام عسكري فرنسي في الهجوم على الساحل الغربي لليمن.. وعندما افتضح أمره، زعمت فرنسا، أنها اتفقت مع السعودية على تنظيف منطقة «الحديدة» من الألغام… فبالله كيف عرفت فرنسا مسبقاً أنّ معركة التحالف في الساحل الغربي ذاهبة إلى احتلال الحديدة؟ وكيف تتعاون مع محتلين، كانت تنتقد قتلهم للمدنيين اليمنيين؟ لعلها تناست ما كانت تقوله تحت ضغط المصالح الاقتصادية والتحاصص.. إنّه الشبق الاستعماري الغربي لم يتراجع قيد أنملة منذ ثلاثة قرون. وكذلك بريطانيا التي تسكنها حتى الآن أحلام إمبراطوريتها التي لم تكن تغيب عنها الشمس.

ولـ»إسرائيل» دورها العسكري في اليمن، هنا يقول الإعلام الغربي بشكل سافر لا يأبه لمشاعر المتورّطين، إنّ السعودية والإمارات اتفقتا مع «إسرائيل» على دور عسكري لها في اليمن.. يبقى سرياً حتى إسقاط صنعاء.. والدليل أنّ معلومات غربية كشفت عن وجود قوات إماراتية وإسرائيلية في قواعد عسكرية لبلديهما في ارتيريا قبالة الساحل الغربي لليمن وتتحضّر للهجوم عليه.. الأمر الذي يوضح أنّ الروس والإيرانيين وحزب الله يقاتلون في سورية فقط.. بينما يقود التحالف الخليجي الغربي الإسرائيلي الحرب في سورية واليمن مباشرة. وفيما تؤيد إيران وحزب الله الشعب اليمني سياسياً وإعلامياً، تدعم روسيا ما تسمّيه «الشرعية في اليمن» أيّ القوة المحسوبة على السعودية التي يترأسها عبد ربه منصور هادي الذي يستعمله السعوديون غطاء لتبرير مجازرهم للبشر والحجر في اليمن.

هناك إذاً أسباب كافية للربط بين الحربين في سورية واليمن بالنسبة لكامل فريق التحالف الدولي عسكرياً وسياسياً واقتصادياً واستراتيجياً.

أما أسباب تصعيد حربهم إلى درجات غير مسبوقة في اليمن، فهذا يحتاج ربما إلى بحث عميق عن الأسباب، متطلباً العودة إلى مرحلة ما قبل الهجوم على الحديدة.. أيّ مرحلة تراجع النفوذ الأميركي في سورية والعراق ولبنان إلى أدنى مستوى له عسكرياً وسياسياً مقابل صعود روسي إيراني لافت.. وفجأة ألغى الرئيس الأميركي ترامب موافقة بلاده على الاتفاق النووي مع إيران متذرّعاً بأسباب ملفّقة تغطي إصرار بلاده على وقف تراجعها. فإيران شريكة روسيا في سورية هي التي اخترقت نفوذ بلاده في المشرق العربي وآسيا الوسطى. وتشكّل وسواساً للخليجيّين والإسرائيليّين.

الهجوم الثاني لوقف التدهور الأميركي كان في البادية السورية من قبل إرهابيّين غطت تحرّكاتهم قاعدة التنف الأميركية. فحاولوا إسقاط البوكمال وبعض أنحاء البادية وتدمر والسويداء.. ما أدّى إلى وقف تنفيذ تفاهمات روسية ـ أميركية ـ إسرائيلية على حدود الجولان المحتلّ والأردن والعراق، كانت تقضي بنشر الجيش السوري، واتضح أنّ هناك دوراً سعودياً في كبح جنوح الأردن نحو التفاهم مع دمشق. كما يظهر الاختناق الأميركي في سورية من عودة واشنطن إلى فبركة اتهامات سياسية وهمية باستعمال الدولة السورية السلاح الكيماوي في أمكنة جديدة. هذا بالإضافة إلى تنسيق احتلال قسم من الشمال السوري مع الأتراك وفي أكثر من نقطة، ودفع الأكراد للتفاوض مع الدولة السورية على كانتون مستقل لهم برعاية أميركية.

هذه هي معطيات المناخات التي بدأ فيها التحالف الدولي بالهجوم على الساحل الغربي لليمن. وهو هجوم ضخم جداً.. يكفي أنه يضمّ وبكلّ تأكيد قوات سعودية ـ إماراتية فرنسية سودانية وإسرائيلية، ومرتزقة من مختلف الأصقاع بإشراف جدي كامل، من الأميركيين والبريطانيين. ولم يسبق لمعارك الحرب العالمية الثانية أنّ شهدت مثل هذا «التغير» غير المسبوق. الأمر الذي يكشف عن ضيق أميركي استراتيجي يُصرّ على أحداث تبديلات في مواقع استراتيجية أساسية لإسقاط حلف أنصار الله مع المؤتمر الشعبي، وتجويع كامل اليمن.. لأنّ المنفذ الوحيد إليه. هو ميناء الحديدة الذي يستقبل الواردات الحياتية لنحو 14 مليون يمني.

ويتقاطع هذا الهجوم الكبير مع زيارات المندوب الدولي غريفيت إلى صنعاء العاصمة اليمنية لأكثر من مرة.. حاملاً عرضاً وحيداً، تسليم ميناء الحديدة للأمم المتحدة.. وتبيّن أنّ السعودية لا تقبل بهذا الحلّ.. ويشاركها في الرفض، الأميركيون الذين يريدون إعادة عبد ربه منصور هادي رئيساً لليمن، مع السماح بتمثيل سياسي هامشي للحوثيين.

إنما ما هي الأبعاد الحقيقية لمعركة الحديدة؟ المشاركة الفرنسية السافرة تكشف أنّ «الغرب» يعمل على تحاصص سياسي جيوبولتيكي على مستوى المشرق العربي، لذلك لم يتأخّر الرئيس الفرنسي ماكرون عن الهرولة نحو اليمن للمشاركة في تقسيم المغانم. وكذلك بريطانيا.

والواضح حتى الآن أنّ واشنطن تعمل على إرباك سورية والعراق واليمن ولبنان بأساليب مختلفة لانتزاع دور لها في شرق سورية عبر تأسيس كانتونات عشائرية وكردية فيه. وتعمل على إعادة العراق إلى مرحلة الكانتونات المذهبية والقومية مع نشر أكبر قدر ممكن من القواعد العسكرية لها ولحلفائها والسماح لتركيا بالبقاء في كردستان العراقية للمزيد من إرباك الأوضاع.

يتضح إذاً أنّ واشنطن تصعّد على المستويات كافة لتنظيم أكبر عملية مقايضة لم يحدث مثيل لها حتى في الحرب العالمية الثانية. وذلك على أساس المعادلة التالية: غرب سورية عن نقاط التماس مع الأتراك وحتى الجولان المحتلّ والحدودين مع الأردن والعراق.. ما هو المقابل الذي يريده الأميركيون.. شرق سورية وتسوية لاقتسام العراق مع الإيرانيين، وإبعاد الحوثيين عن سواحل عدن إلى باب المندب مروراً بمداخل المحيط الهندي.. وتشكيل حكومة لبنانية فيها حزب الله، إنما على أساس تسوية حدودية في البحر والبر مع «إسرائيل» ورعاية أميركية كاملة لاستثمار غازه ونفطه. وجاء الردّ سريعاً من الرئيس الأسد الذي أعلن أنّ سيادة الدولة السورية على أراضيها غير منقوصة سلماً أو حرباً. وكذلك جاءت مقاومة الحوثيين للهجوم على الحُدَيْدة دليلاً على رفض أسلوب المقايضة والصفقات التي يرى السوريون واليمنيون أنها لا تساوي دماء مجاهد واحد قضى في سبيل إسقاط النفوذ الأميركي ـ السعودي.

اترك تعليقاً

Back to top button