هل لبنان كيان سياسي «فائض»؟

د. وفيق إبراهيم

كان وزير الخارجية الأميركي السابق هنري كيسنجر يجهُر بأن لبنان «خطأ تاريخي» و»فائض»، يمكن أنّ يشكِّل حلاً للصراع العربي ـ الإسرائيلي. لكن أحداً لم يأخذ كلامه على محمل الجدّ باستثناء القلق الذي اعترى دوائر الكنيسة المارونية في لبنان، بدّدته الرعاية الفرنسية المواكبة لفشل الحلول في قضية فلسطين.

لكن النزوح السوري إلى لبنان الذي تعدّى المليون ونصف المليون نسمة، أعاد القلق إلى أسواق السياسة. فبعض السياسيين يريد تأمين شعبية لحزبه في لعبة الصراع على المكانة السياسية الداخلية. وهناك قسم آخر يجمع بين ذعر فعلي من توطين أعداد من السوريين والفلسطينيين وبين انجذابه لتوفير قاعدة شعبية كبيرة لحزبه يعتقد أنها سهلة في هذه المناخات.

ما يجعل هذا الذعر حقيقياً، حديثان أميركيان: الأول تاريخي والثاني حالي:

أهل نسيَ أحد أنّ وزير الخارجية الأميركي السابق هنري كيسنيجر قال عن لبنان إنه فائض تاريخي وخطأ كبير، يمكن أنّ يشكل حلاً للصراع العربي ـ الإسرائيلي.. لكن أمنيات هذه السياسي الاستراتيجي لم تتكلل بالنجاح.. لفشل تدمير حلول لقضية فلسطين وليس لممانعة لبنانية لم ترقَ في حينه إلى مستوى خطورة الكلام الكيسنجيري الخطير.

لجهة الحديث الأميركي الحالي، فصاحبه مستشار الرئيس الأميركي وصهره جاريد كوشنر الذي كشف في محادثاته مع المسؤولين الأردنيين في عمان في محاولة لتسويق «صفقة القرن» أنّ بلاده على استعداد لتأمين ديون لبنان البالغة مئة مليار دولار.. إذا قبَل بتوطين الفلسطينيين الموجودين على أراضيه أي نحو نصف مليون نسمة. هذا يقود منطقياً إلى قراءة دقيقة إضافية للإصرار الأميركي الأوروبي ـ السعودي ـ الخليجي على منع عودة النازحين السوريين إلى المناطق الآمنة في بلدهم.. فهل هذا أيضاً جزء من صفقة القرن.. حسب اتجاهات كوشنر و»ثعلبات كيسنجر». ويعكس استخفافاً غربياً بالكيان السياسي اللبناني الذي يريده، كما يبدو، المدى الجغرافي المُستوعِب لبعض أجزاء قضية فلسطين والصراع على سورية.

ما يؤكد جدية هذه الاقتراحات، وجود عروض مالية ضخمة، لِما يتبقى من دولة لبنان السياسي، تترافقُ مع استعداد أوروبي ـ أميركي لتوطين سبعمئة ألف لبناني من المسيحيين. أي عودة إلى الحكاية القديمة.. في الغرب!!

هنا لا بد في المنطلق من الإشارة إلى أنّ لبنان السياسي مساوٍ في الأهمية للكيانات الأردنية والخليجية، والسودانية والشمال ـ أفريقية من حيث التاريخية، وما ينقصهُ تاريخياً ليس موجوداً في الكيانات العربية الأخرى.. لذلك يبدو أنّ الغرب الاستعماري يلعب على الأبعاد الطائفية في لبنان.. لإضعافه وتفتيته وجعله مطواعاً للألعاب البهلوانية الأميركية.

لذلك فإن توطين مليون وخمسمئة ألف سوري وفلسطيني، واستقبال سبعمئة ألف لبناني معظمهم من المسيحيين في أوروبا وأوستراليا، وكندا هو مشروع أميركي يجد حلاً لمسألة لا تزال شائكة في مفاوضات رئيس السلطة محمود عباس مع الإسرائيليين. وتتعلّق بحق العودة للنازحين.. وهذا يشمل توطين مليونين من فلسطينيي الشتات في سورية ولبنان والأردن ومصر. ما يُلغي نهائياً مسألة حق العودة. لكنه يطلب أيضاً، إلغاء للتاريخية اللبنانية المرتكزة على مسيحيين ومسلمين.. بما يعني تهجير القسم الأكبر من المسيحيين، وإلغاء الدور السياسي الوحيد والحصري الذي تؤديه مجموعة مسيحية مشرقية وتاريخية، تمتدّ جذورها في أعماق تاريخ سورية الآرامية ومن بعدها السريانية المسيحية.. لكن هذه المميزات لا تثير اهتمام أوروبيين أصبحوا أميركيين بعد هجرتهم إلى القارة الأميركية قبل مئتي عام فقط.

تقود هذه المعلومات إلى مناقشة ما يردُ من تصريحات في هذا الشأن لوزير الخارجية جبران باسيل.. فنتيجة لعمله الدبلوماسي يستشعر خطراً على لبنان السياسي والاجتماعي يعرف مصدره، لكنه يتجاهله لخوفه على موقع تياره الوطني الحر. ويتطرق إليه بطريقة توحي بأنه مجرد باحث عن «شعبوية مسيحية» في إطار صراع حزبه مع الأحزاب الأخرى.

ولأن الأحزاب المسيحية الأخرى فهمت «المغزى الباسيلي» من تركيزه على النازحين السوريين، فعلت مثله وزاودت عليه حتى وصل الأمر إلى حدود التحريض العنصري على النازحين السوريين. علماً أنّ لا أحد في لبنان يشعر بأن السوريين أغراب عن البلد.. الأمر الذي يقتضي طرح الموضوع وطنياً على أساسين اثنين: الأول هو أنّ لبنان ليس حلاً لمشكلة حق العودة للفلسطينيين الذين يجب أنّ تكون عودتهم إلى فلسطين فقط. وكذلك لجهة السوريين.. الذين يجب أنّ يعودوا إلى ديارهم الآمنة وهي بعشرات آلاف الكيلومترات المربعة التي تستوعب الكثير منهم من أبناء هذه المناطق.. أما النازحون من مناطق غير آمنة، فليبقوا على الرحب والسعة بين أهلهم وأخوانهم، أما المستوى الثاني للنقاش فهو وطني لبناني. فكيف تقبل بالاستماع إلى نصائح أميركية وأوروبية تتعلق باستقبال مسيحيين لبنانيين في بلدان غربية؟ وكأن المسيحيين اللبنانيين ليسوا من جذر هذه الأرض ويرتضون بالانتقال الطوعي في إطار تحفيز اقتصادي.

إنّ اللوم يقع في هذا الخصوص، على خفض مستوى النقاش في هذا الموضوع من الدرجة الوطنية الاستراتيجية التاريخية إلى خانة البحث عن «شعبوية» أو تموصفات، فنُطلق صرخات لإعادة السوريين، وسرعان ما ننكفئ لمجرد وعود برئاسة جمهورية من هنا، ومصالح من هناك وتسويات حكومية من ناحية ثالثة. وهذا يعتبر إقحاماً لقضايا استراتيجية في «بازارات» السياسة ودهاليزها. وقد يلقي بضرره الوبيل على لبنان، ككيان سياسي.

إنّ قضية على هذا المستوى يروّج لها سياسي أميركي على مستوى كوشنر تتطلب ضرورة الدعوة إلى مؤتمر وطني عام عنوانه «الدفاع عن الكيان السياسي اللبناني في مرحلة التسويات الكبرى». وتجري فيه مناقشة وسائل الدفاع عن الوطن مما يتهدّده من مخاطر جيوبولتيكية تجسّدها أحلام كيسنيجر وكوشنر ومساومات بعض اللبنانيين الباحثين عن «غلبة مذهبية» داخلية. وهذا يتطلب إصدار بيان تاريخي يؤكد صفتي لبنان المسيحي والإسلامي في إطار دور عربي فاعل. كما يشترط إيجاد حلول عميقة لمسألتي النازحين السوريين والفلسطينيين على السواء، وإبعاد الموضوع عن الطابع العنصري المقيت.

أما سياسياً، فيجب فتح حوار مع الدولة السورية الممتلكة للشرعية أكثر من سواها من دول تعبث بها السياسات الأميركية، وذلك لتأمين برامج عودة لأصحاب الظروف الممكنة من نازحيهم.

وفي إطار هذا البيان، يمكن تأمين دعم روسي وأوروبي، وصيني و.. لكن المطلوب دولة تعمل على هذا الأمر من دون خوف من عقاب سعودي أو أميركي ـ إسرائيلي.

أما لجهة الفلسطينيين، فالمطلوب، التوقّف عن تجنيسهم.. عودوا إلى لوائح الشطب في صيدا وتكتشفوا آلاف الفلسطينيين الذين جنّسهم المرحوم رفيق الحريري. والمطلوب أيضاً إصدار بيان مشترك مع القوى الفلسطينية، يؤكد على حق العودة إلى.. فلسطين فقط.

ولا بد في النهاية من تأكيد ضرورة وجود دولة في لبنان ليست موجودة حالياً لمصلحة دويلات المذاهب.. وهذا يبعث على القلق والذعر الفعلي.

اترك تعليقاً

Back to top button