حكاية انتمائي إلى الحزب
الأمين سمير رفعت
كانت تستهويني بزّته العسكرية ومشيته العسكرية ونبرته العسكرية، وأنا إبن العاشرة.
وكان كلما يزورنا في دارتنا في أبو رمانة في دمشق أركض لأفتح له الباب وأرافقه إلى حيث يجلس والدي، وكان يزورنا كثيراً خلال الحملة التي قامت ضدّه في المجلس النيابي. وكان يومها رئيساً لأركان الجيش السوري الفتي، إذ كان والدي يساعده في إيجاد المخارج القانونية له، ولم نكن نعامله يوماً كضيف غريب، إنه الزعيم حسني الزعيم الذي كان يعرف الخلاف الكبير بين والدي وبين رئيس الجمهورية آنذاك شكري القوتلي. وكان يقول لوالدي في نهاية كلّ زيارة: انتظر يا خليل وسأريك في القوتلي وجماعته يوماً أسود… إلى أن جاء صباح ذلك اليوم من العام 1949 وقام حسني الزعيم بانقلابه العسكري الأوّل في العالم العربي ووضع السياسيين في السجن وعلى رأسهم شكري القوتلي رئيس الجمهورية.
سمعنا كما سمع السوريون نبأ الانقلاب. وما هي إلا ساعات حتى سمعت مجموعة من الدراجات النارية تهدر في شارع أبو رمانة، ركضت صوب باب البيت فوجدتهم قد توقفوا أمام منزلنا وترجّل الزعيم حسني الزعيم، قاطعاً درجات المنزل بسرعة قائلاً لي: أين أبوك يا سمير، أطلّ والدي مرحباً به فبادره الزعيم قائلاً: أما قلت لك لم تكن تصدّقني ها هم جميعاً في السجن. والآن دورك كي تنتقم من شكري القوتلي الذي أقالك من عملك في الحقل القضائي، قبل بلوغ سن التقاعد، لذا جئت أعرض عليك الوزارة التي تريد.
ضحك والدي لهذا العرض السريع الذي جاء بعد ساعات من الانقلاب العسكري وعلّق قائلاً: لقد نجحت يا حسني بانقلابك العسكري، أما الانقلاب المدني فستفشل فيه، إذا لم تسلّم الأمانة لمدنيين أكفّاء، أما أنا فلا رغبة لي بالتوزير، بل أيّ وظيفة أكمل بها مدة التقاعد المتبقية لي، واتفق الإثنان على أن يتسلّم والدي محافظة دمشق الممتازة، وهكذا كان.
بعد أيام من الانقلاب شكّل الزعيم حسني الزعيم لجنة تحقيق مع شكري القوتلي والحكومات التي شُكّلت في عهده، ووضع والدي رئيساً لهذه اللجنة وعضوية أكرم الحوراني وبهيج كلاس، قال الزعيم لوالدي: أتتك الفرصة كي تنتقم من القوتلي… وحين استدعى والدي القوتلي لجلسة التحقيق الأولى، قال القوتلي لوالدي: خليل بيك أرجو أن لا تعاملني بعملي. أجابه والدي: ضميرُكَ ضميرُ سياسيّ وضميري ضميرُ قاضٍ. والفارق كبير كما ترى فشتّان بين الضميرَيْن.
ورغم أني أعرف سبب الخلاف الكبير بين الرجلين أيام كان القوتلي في السجن ووالدي نائباً عامّاً للجمهورية، لكنّي أعزف عن إيراد السبب لأبقي للقوتلي ما له من احترام في نظر السوريين كالمواطن العربي الأول. وهو الذي قال لمجموع المستغربين حين أصبح رئيساً للجمهورية وأخذ قراراً فورياً بتسريح والدي من القضاء، أجاب: البلد لا تتسع لبطلَيْن كي أعمل رئيساً للجمهورية يجب أن يكون خليل رفعت في منزله.. وهكذا كان حتى انقلاب حسني الزعيم.
وأثبت والدي الفارق بين ضمير القاضي وضمير السياسي، إذ إنه لم يجد أيّ مثلبٍ واضحٍ ضدّ القوتلي خلال فترة رئاسته ولا يستطيع أن يحاكمه على حوادث مضت قبل ذلك.
بقي والدي محافظاً لدمشق إلى أن حدثت في حلب مظاهرات وأحداث شغبٍ واعتقالات احتجاجاً على تصرفات محافظ حلب حسني البرازي الذي كان يضع على سيارته حرف ش1 ويقول: حسني الزعيم في الجنوب وحسني البرازي في الشمال، وقام باعتقال قادة حزب الشعب رشدي الكيخيا وناظم القدسي الذي أصبح رئيساً للجمهورية في ما بعد وآخرين.
استنجد حسني الزعيم بوالدي عارضاً عليه ضرورة الذهاب إلى حلب وتسلّمه المحافظة محاولاً إقناعه بأنّ المهمة لن تطول لأكثر من أشهر، ولم يكن يدري أنّ هذه الأشهر كانت كفيلةً بإنهاء عهده بانقلابٍ عسكري، وحين ذهب والدي إلى حلب وجدها تُدين بالولاء لحزب الشعب وزعمائه الذين في السجن والمظاهرات تعمّ المناطق. توجّه والدي إلى السجن وأفرج عن الكيخيا والقدسي وأقلّهما بسيارته إلى منزليهما، كما أفرج عن المعتقلين الآخرين فهدأت حلب في أقلّ من ساعة وعادت الحياة الطبيعية إليها.
وفي ليلة قارب الوقت فيها منتصف الليل رنّ الهاتف الخاص الذي يربط والدي بحسني الزعيم وجاء صوته من دمشق طالباً ضرورة توجّه والدي إلى العاصمة لأمر هامّ جداً. ركبنا السيارة إلى دمشق وكنتُ برفقة والدي فقد اشتقتُ إلى دمشق وإلى بيتنا في أبو رمانة. وكان برفقتنا أكرم الحوراني الذي كان في حلب، وطلب الذهاب معنا إلى دمشق، ولا شك في أنّ صبياً بعمري قد يتذكّر أشياء حدثت في صغره، إذ أذكر أننا مررنا في طريقنا من حلب بحماة. وكانت الطريق تمرّ داخل حماة وحمص قبل وجود الطريق الدولية، ولفتت نظر والدي لافتة معلقة على بلدية حماة تقول دار البلدية بحماة، فعلّق والدي قائلاً لأكرم الحوراني إبن حماة: تقولون إنّ الحماصنة على نيّاتهم بينما برهنتم أنكم أكثر منهم بساطة، فإذا كانت هذه البلدية في حماة فلماذا تكتبون عليها دار البلدية بحماة؟ أجابه أكرم الحوراني: يا خليل بيك معك حق، لكن الخطاط الذي كتب اللافتة حمصي… وكان يُعرَف عن الحوراني أنه سياسي لعوب، وكانت له أدوار كثيرة في العديد من الانقلابات التي شهدتها سورية. وقد علمت بعد سنوات أنه كان سورياً قومياً اجتماعياً وكان منفذاً عاماً لحماة. وحين زار الزعيم سعاده الكيان الشامي بعد عودته من مغتربه القسري جال في المدن الشامية، وكانت لحماة حصتها وحين كان الحوراني في استقبال الزعيم سعاده كمنفذ عام تمنّى على الزعيم أن يُصدر مرسوماً يسمّيه نائباً للزعيم. وحجته أنه بهذا المرسوم يستطيع أن يدخل المئات من جرد حماة في الحزب، أي أنه سيستقوي بهذا المرسوم لتوسيع رقعة الانتماء للحزب… أجابه الزعيم سعاده على الفور أنت منفذ عام حماة أيّ أنك المسؤول الأول في هذه المنطقة، فلماذا لم تدخلهم في الحزب، أرى أنك تفتش عن منصب شرف، وفي الحزب السوري القومي الاجتماعي المناصب الحزبية ليست مناصب شرف، بل هي مناصب جهد وعمل، لذلك سأترك لك فرصة التفتيش عن تلك المناصب في أحزاب أخرى. وبالفعل راح أكرم الحوراني يفتّش عن مناصب شرف في الحزب الذي أسّسه بعد ذلك، العربي الاشتراكي.
أعود إلى رحلة دمشق التي وصلناها بعد الظهر حتى سمعت صوت الدراجات النارية المرافقة لحسني الزعيم رئيس الجمهورية، خرجت إلى الشارع لأرى الموكب قد توقّف أمام منزلنا فاستقبلته كالعادة بالحبّ والإعجاب أحاطني بيده سائلاً عن والدي فقلت له إنه في مكتبه في المنزل ودخلنا معاً. وكان والدي على غير عادته متجهّماً وقاسياً في حديثه مع حسني الزعيم، قال له: بأيّ عين تأتي لزيارتي بعدما عرفت ماذا فعلت باللاجئ السياسي الذي احتمى بنا، والدي لم يقف حتى لاستقبال حسني الزعيم الذي راح يحاول التبرير بكافة الطرق ويشرح الضغوط التي مورست لتسليمه، إلا أنّ والدي بقي على لهجته القاسية حتى أنّه طلب منه أن يخرج من البيت، عندها تأثّرت كثيراً لتلك الطريقة التي لم أعهدها من أبي. وقلت له: لماذا تكلم عمو حسني هكذا؟ ورحتُ أبكي حزناً على هذا الشخص الذي طُرد من بيتنا. أجابني والدي: هذا الرجل تصرّف تصرّفاً لا أخلاقياً حين سلّم أنطون سعاده لأعدائه في لبنان ليعدموه… والتفت مرة ثانية إلى حسني الزعيم مكرّراً طرده من البيت.
كرّت السنوات وانتميتُ إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي حزب الزعيم أنطون سعاده، إلى أن اعتُقلت للمرة الأولى في العام 1963، وأنا أهمّ بدخول مبنى التلفزيون في دمشق، حيث كنتُ أعملُ مذيعاً للأخبار. علم والدي باعتقالي فاتصل بصلاح البيطار الذي كُلّف بتشكيل أول وزارة لحزب البعث في دمشق، وطلب منه التفتيش عني، وحين وجدني في أحد الأقبية أقلّني بسيارته إلى البيت. وكان والدي ينتظرنا أمام منزلنا في أبو رمانة، وحين نزلتُ من سيارة البيطار أحاطني والدي بيديه وضمّني إلى صدره الحنون، سأل البيطار: لماذا اعتقلتموه؟ فأجاب عمّو إبنك قومي سوري. اضطررت لأن أصحّح له اسم الحزب فقلت: سوري قومي وليس كما قلت. عندها قال البيطار لأبي أترى إنه سوري قومي وعنيف أيضاً. التفت والدي وسألني وهو الذي لم يكن يعرف بانتمائي بعد: منذ متى وأنت سوري قومي؟ أجبته: منذ أن طردتَ حسني الزعيم من بيتنا.. لقد سمعتُ هذا الاسم اسم سعاده منك لأول مرة في حياتي، ومنذ ذلك التاريخ رحتُ أفتّش عنه، أفتّش عن صاحب هذا الاسم الذي من أجله طردتَ رئيس جمهورية من بيتنا.
مرّت سنوات كنتُ أقوم فيها بالنشاط السري الذي كان يُطلَب منا في الكيان الشامي. وكان والدي يشعر بذلك، ورغم خوفه عليّ لم يمنعني مرة واحدة من القيام بهذا النشاط، رغم أنه لم يكن حزيباً في حياته.. لكنه احترم خياري.
رئيس المجلس القومي في الحزب السوري القومي الاجتماعي