الخاسرون في جنوب سورية.. يرتدون أقنعة!
د. وفيق إبراهيم
معارك الجنوب السوري تلفظ أنفاسها الأخيرة بعد ست سنوات من قتال ضارٍ شاركت فيه دول عربية وإقليمية ودولية كانت تدعم معارضات متطرفة في وجه الدولة السورية وتحالفاتها.. لقد تدحرجت أهداف هذه المعارضات من إسقاط الدولة، إلى تبني المشروع الداعشي الرافض للأقليات والأكثريات معاً، وصولاً إلى المطالبة بإقليم خوران وإقليم السويداء وإقليم القنيطرة، فكلما انتصرت الدولة تقهقرت معارضة درعا. وهرولت نحو «إسرائيل» في الجنوب الغربي لتستمدُ منها قوة. فالجانب الأردني لم يعُد لديه ما يعطيه.. بعد استنفاد كل وسائله في غرفة «الموك» المتصلة بالأقمار الاصطناعية الأميركية. كانت هذه الغرفة تضمّ قيادات أركان أميركية ـ إسرائيلية ـ أردنية ـ سعودية ـ قطرية أسست أدواراً عسكرية كبيرة لها من خلال الجيش الحر المزعوم والتنظيمات التركمانية أو التابعة للاخوان المسلمين أو التي تقطعت بها السبل.
تبقى «إسرائيل» وهي الأكثر اهتماماً بالجنوب لمحاذاتها له.. فالكيان الصهيوني انخرط في معارك سورية بفرض تفتيت سورية إلى كيانات متعدّدة ومتناقضة، وهذا يتماهى مع المشروع الأميركي. ما يدلّ على وحدة الأهداف البعيدة.
لماذا يريدان التفتيت؟
أميركياً، يؤدي تفتيت سورية إلى إلغاء أهم كيان سياسي في المشرق العربي له حلقات وصل مع لبنان والأردن والقضية الفلسطينية والعراق وتركيا، واقعة العروبي يجعله مسموع الصوت في معظم العالم العربي، هذا يعني أنّ واشنطن تريد من تفتيت سورية من خلال جنوبها إعادة تشكيل المنطقة على نحو جديد يزيد من ارتباطها بالسياسة الأميركية ويخدمها في كل مساعيها لجهة إلغاء القضية الفلسطينية، وتشكيل محور خليجي ـ إسرائيلي ـ عربي، أميركي لمنع الصعود الروسي والصيني وحزب إيران. التي تسبّب لها قلقاً وازعاجاً إضافيين في العالم الإسلامي.
ماذا عن «إسرائيل»؟ هل لديها أهداف خاصة؟
تريد «إسرائيل» من تدخلها في سورية الغاء القضية الفلسطينية، لأن الكيان الغاصب يعرف أنّ استسلام السادات في 1979 والسلطة الفلسطينية في اوسلو والملك حسين في وادي عربة التسعينيات لم تؤدِ إلى القضاء على القضية الفلسطينية، والسبب واضح ويتعلق برفض الرئيس المرحوم حافظ الأسد الانخراط في هذا المشروع، مانعاً بذلك انهيار القضية الفلسطينية، ومشجعاً الشعب الفلسطيني على التمرد في الداخل المحتل في الضفة وغزة. وكذلك فعل الرئيس بشار الذي دعم حزب الله في قتال «إسرائيل» حتى هزيمته في 2000 و2006، أصبحت أهداف الدول المتورطة واضحة، لكن أحداً لم يفهم حتى الآن ما هي الأهداف السعودية والاماراتية والقطرية من رصد أكثر من 240 مليار دولار على دعم الإرهاب في سورية؟
يعتبر الغربيون أنّ ما يعني حكام الخليج هو ارضاء الأميركي بأي وسيلة.. حتى لو اقتضى الأمر التحالف مع «إسرائيل»، ويبدو أنّ الأمر قد أقتضى ذلك.
بالايجاز يتبيّن أنّ فريق المخططين في الجنوب السوري يتمثل بطرفين أساسيين يعملان في خدمة معظم الدول العربية. وهناك طرف تركي يجهد لالتقاط الفتات بالحيلة حيناً وبالتقاء المصالح مع الروس والإيرانيين حيناً آخر. وهذاان الطرفان أصبحا معروفين وهما الأميركي والإسرائيلي اللذين يعاندان من أجل تفتيت سورية.. لتحقيق مصالحهما بواسطة الجوقة العربية ـ التركية.
ماذا عن جانب الدولة السورية؟ جابه نظامها المشروع منفرداً بدءاً من معارك درعا التي كان يروّج لها من الباب الإنساني مغفلين جانبها التحريضي لتحشيد الناس بأبعاد مذهبية صرفة وإرهابية، والتي سرعان ما اتضحت وتموضعت على أساس ارتباطاتها بالقاعدة وداعش والنصرة ومثيلاتها فكرياً.
بمعنى أنّ الاختلاف بين تنظيم حوران وعاصمتها درعا كان باختلاف مصادر التمويل فقط وليس فكرياً.
الدولة السورية إذاً حملت لواء الدفاع عن سورية.. وأدى صمودها في وجه عشرات الدول وجهادية عالمية غير مسبوقة، إلى تدخل حزب الله وإيران، وأخيراً روسيا. هدف هذه القوى تجلّى بالدفاع عن سورية أرضاً وشعباً على مستوى وحدته.. متمكناً في سنتين فقط من تمهيد الطريق أمام انتشار الجيش السوري على ثلاثة أرباع سورية من الشمال وحتى حدوده الجنوبية مع الأردن والعراق وعلى مقربة من حدود الجولان السوري المحتل.
إنّ الترجمة السياسية لهذا النصر العسكري لا تعني إلا أنه انتصار كبير على المشاريع التفتيتية التي كانت تطرحها التنظيمات الإرهابية بوكالتها الحصرية عن التورط الغربي ـ الإسرائيلي ـ الخليجي.
والدليل أنّ الجيش السوري تسلم حدوده مع الأردن.. فكيف يمكن بعد الآن الكلام عن تفتيت من الحدود الأردنية حتى درعا، حاصراً الإرهاب عند حدود الجولان واللافت أنّ «إسرائيل» تفاوض الروس على سحب هؤلاء إلى أدلب بعدما انتفت وظائفهم إسرائيلياً، ولم يعد بإمكاناتهم تهديد دمشق. لذلك يضغط الكيان المحتل على روسيا على أساس تثبيت هدنة 1974 أو نشر الجيش السوري.
أما لجهة حدود العراق، فالجيش السوري ينتشر على قسم منها ويترقب المفاوضات الروسية الأميركية، حتى ينتهي من قاعدة التنف الأميركية سلماً أم حرباً. وهذه قاعدة لا تزال حتى الآن تعمل على إيواء إرهابيين وتمويلهم وتسليحهم. يمكن إذاً القول إنّ مشاريع تفتيت الجنوب سقطت إلى غير رجعة، ما يشجع على معرفة هويات المنتصرين والمهزومين. لجهة الفائزين يتصدر الجيش السوري أولاً ويليه حلفاؤه الروس والإيرانيون وحزب الله، لكن هوية المهزومين لا تزال مجهولة لأنهم غيروا مشروعهم تحت وطأة الانكسارات العسكرية، فبعدما كانوا يروّجون لتفتيت ويعملون له.. أصبحت مشاريعهم تقبل بانتشار الجيش السوري شرط سحب إيران وحزب من سورية ـ وتحت وطأة الرفض السوري يتراجعون فيتكلمون عن انسحاب حتى حدود الـ40 كيلومتراً مربعاً. المهم بالنسبة إليهم الحفاظ على كمية حتى لو كانت قليلة من الحياة.
فالجميع يعرف أنّ إيران جاءت إلى سورية للدفاع عنها.. وعندما تشعر أنّ الدولة أصبحت سيدة أمرها على مؤسساتها وأراضيها، فإنها ترحل عنها بالاتفاق مع السوريين. وكذلك الأمر بالنسبة لحزب الله والتنظيمات الموالية له.. هؤلاء يعتبرون أنّ ما تحقق معجزة وتجب المحافظة عليها، لأن الدولة السورية تحتاج إلى مدة طويلة لإعادة البنيان والتأسيس والاستقرار حتى تؤدي وظائفها العربية والإقليمية. الأمر الذي يكشف أنّ افتعال خلافات كهذه ترمي إلى الإيحاء بأن الأطراف «المهزومة» حققت مطالبها.
إنّ هذه الأقنعة عاجزة عن إخفاء الحقيقة، التي يركلها تسلم الجيش السوري لمعبر «نصيب» الذي يربط بين لبنان وسورية والأردن والعراق، ولم يحدث مرة في التاريخ أنّ حجبت أقنعة من كرتون، حقائق صنعها رجال مقاومون بدمائهم، هذه هي سورية «ولادة» الانتصارات والمدافعة عن أمة قست عليها في السنين الأخيرة بضغط من النظامين العربي والإقليمي والتدخل الغربي، لكن سورية لا تتخلى أبداً عن انتمائها التاريخي والجغرافي مهما كان قاسياً.