نقاط على الحروف ذكاء الأكراد وغباء أردوغان
ناصر قنديل
– بمثل ما تبدو المقارنة بين مصادر القوة وهوامش المناورة لدى كل من القيادتين التركية والكردية في الحرب السورية، مختلة لصالح الأتراك، تبدو المقارنة بين سلاسة التعامل مع المتغيّرات واستيعابها وبلورة خريطة طريق للخروج الآمن من الحرب، مختلة لصالح الأكراد. فخلال السنوات التي مضت من الحرب بدت العقدتان التركية والكردية الأصعب من بين سائر العقد، لأنهما ليستا مجرد عقدتين عسكريتين، كحال الجماعات المسلحة التي تتخذ عنوان المعارضة وتنتمي في غالبها لمكوّنات متفرّعة أو مموّهة لتنظيم القاعدة، حيث يكفي في مواجهتها النجاح في كشف حقيقتها كفصائل ينطبق عليها تعريف الإرهاب من جهة، وإنتاج موازين قوى عسكرية تتيح خوض الحرب عليها، ضمن تتابع وتدرج، يتيحان الحسم الموضعي السريع وامتصاص الضجيج الخارجي المرافق لكل حسم.
– تتأسّس العقدة التركية من الجوار الجغرافي الممتدّ على مئات الكيلومترات والتداخل الديمغرافي المتشابك مع شرائح سورية واسعة من بوابات إتنية كحال التركمان، أو بوابات سياسية كحال الأخوان المسلمين، أو بوابات مذهبية، كحال الكثير من الجماعات المتطرفة التي رفعت العنوان المذهبي لشعارها في خوض الحرب. وبنت القيادة التركية على هذا الجوار والتداخل مشروعها المعبر عن حلم تاريخي بالعودة للتحكم بدول عربية وإسلامية بعدما عدّلت مشروعها العثماني الجديد بما يتناسب مع صيغة الدولة الحديثة، ضمن حدود دولية معترف بها، وتعويض ذلك بالتلاعب بهوية السلطات الحاكمة، التي يكفي تركيا أن تضمن تبعيتها السياسية والمذهبية حتى تتحقق لها السيطرة المنشودة. فتشكلت من هذا الجمع التركي بين الوقائع والطموحات الأسباب التي جعلت تركيا القاعدة الرئيسية للحرب على سورية، والركيزة التي يعتمد عليها حلفاؤها في مراحل الرهان على إسقاط سورية قبل زمن التدخل الروسي المباشر.
– بالمقابل تأسست العقدة الكردية على سوء فهم تاريخي مزمن بين الأكراد والحكومات السورية المتعاقبة حول الوضع القانوني والاجتماعي والسياسي للأكراد في سورية، من جهة، وحلم تيارات سياسية كردية تاريخياً بكيان كردي يضمّ أكراد العراق وتركيا وسورية وإيران، رغم إدراك الفوارق بين أحوال الأكراد في سورية وخصوصيتهم التاريخية المختلفة عن سائر أكراد المنطقة، من جهة أخرى. وجاءت الحرب تمنح هذا الحلم فرصة الاستثمار على سوء الفهم المزمن، لتحويل الأكراد جسماً مقاتلاً تحت لواء قيادة الحرب على سورية. وهي قيادة أميركية مباشرة، وتقديم الغطاء المحلي للوجود الأميركي، وصولاً لتهديد وحدة سورية، بصورة جعلت من الأكراد حجر الرحى في تعطيل أي مسعى لحل سياسي من جهة، والركيزة التي لا غنى عنها لتبرير البقاء الأميركي في سورية، من جهة ثانية.
– نجحت سورية وحليفاها الروسي والإيراني بخوض الحرب على قاعدة تأجيل استحقاق المواجهة مع العقدتين التركية والكردية، وفتحت الأبواب الخلفية لضمّهما إلى المبادرات السياسية كلما بدا أن انتصارات جديدة تتحقق لسورية والحلفاء. وقالت معارك الجنوب الأخيرة إن سورية ماضية بلا هوادة في استعادة سيطرة جيشها على كامل جغرافيتها الوطنية، وإن الحلفاء رغم ظاهر التمايزات موحّدون خلفها، وإن على اللاعبين الكبار الاختيار بين المواجهة أو الانكفاء، وقالت وقائع حرب الجنوب إن المواجهة فوق طاقة أميركا و«إسرائيل»، فيما قالت وقائع قمة هلسنكي إن خيار الانكفاء يبدو مرحّباً به أميركياً كبديل لخسارة ماء الوجه في الحلقة المقبلة وتبدو شمالية حكماً.
– الوقائع الأخيرة للسلوكَيْن الكردي والتركي، تقول إن القيادة الكردية انفتحت على العروض الموجودة على الطاولة وقامت بإحيائها، ولم تتعامل بلغة استفزازية مع كلام الرئيس السوري عن اللجوء للقوة إذا فشل الحل التفاوضي، بل جاءت للتفاوض دون سقوف عالية مدركة أن لا وقت ولا مجال لترف التذاكي والتشاطر. فوضعت على الطاولة سلفاً الاستعداد لتسليم مناطق سيطرتها للدولة السورية والتنازل عن أي خصوصية أمنية وعسكرية ودبلوماسية، لتفتح ملف التوصل لحل تاريخي لسوء التفاهم المزمن، عنوانه اللامركزية التي لا تحدّد دوائرها هويات دينية أو عرقية، بل تقسيمات إدارية صرفة، بينما الوقائع المقابلة تقول إن القيادة التركية سارعت للرد على كلام الرئيس السوري عن أن الوجهة المقبلة لاهتمامات الدولة السورية بإنهاء الحرب، هي الشمال، بالتهديد والتحذير وصولاً للقول إنها ستعيد النظر بوجودها في معادلة استانة إذا حصل أي عمل عسكري في منطقة إدلب، بينما لا يبدو أن هناك ما يعمل لصالح هذه العنجهية التركية الفارغة التي ستجد نفسها مُجبرة على تجرّع كأس الفشل وارتضاء التسليم بسقوط ذريعتها بالأمن القومي المهدّد بنشوء دولة كردية مع ظهور بشائر التفاهم بين دمشق والأكراد، وستجد نفسها أمام خطر التصادم مع شريكيها في مسار أستانة مع روسيا وإيران وهي في وضع دولي إقليمي لا تُحسد عليه.
– إنه ذكاء الأكراد وغباء أردوغان.